إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليك يا أشرف خلق الله وسلم تسليما. لقد أديت الأمانة ونصحت الأمة وكشفت الغـمّ وجاهدت في الله حق الجهاد وتركتنا على المحجّـة البيضاء ليلها كنهارها حتى آتاك اليقين، فصلوات الله وسلامه على نبينا وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . اللهم آمين . يقول الله عزّ وجلّ: ( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ). إلى كل مؤمن أسلم وجهه لله عزّ وجلّ يريد مرضاة الله تعالى، ويريد أن يلقى الله عزّ وجلّ على المحجـة البيضاء التي أوصانا بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وكان عليها صحابته الغر الميامين رضي الله عنهم . كشف وتوضيح في مسألة من مسائل الدين ، التي حاول بعض المغترين بدنياهم بأن يؤلوا هذه المسألة ويخرجوها عن طابعها وانضباطها الأساسي . هذه المسألة قد وقع فيها الكثير ممن ينتسبون إلى الأمة الإسلامية بتأويلٍ محرفٍ ومعاكس عن الفهم والتدبر الذي كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعاً. هذه المسألة هي: في حكم نكاح المشركة والكتابية مرّ هذا الحكم بثلاث مراحل: المرحلة الأولى : منذ بداية الدعوة الإسلامية إلى صلح الحديبية في سنة ست من الهجرة ، وفي هذه المرحلة أُقر المسلمون على أنكحتهم، فكان من المسلمين من لم تؤمن زوجته، وكان من المسلمات من لم يؤمن زوجها، وليس غرضنا هنا استخراج على إقرار المسلمين على أنكحتهم في تلك المرحلة ، ولكن نكتفي بالقول بأن تلك المرحلة اختصت بخصائص منها، أنها كانت مرحلة ابتداء الدعوة في قوم لم تكن لهم معرفة سابقة بها ، ومنها أن السلطان في مكة كان بيد أئمة الكفر ، وأما سلطان المسلمين في المدينة فيما قبل الحديبية فكان في بدايته وبحاجة إلى زيادة تثبيت، ومنها أن تفاصيل علاقة المسلم بالكافر لم تكن قد تمت بعد، صحيح أن ولاية القلب بين المؤمن والكافر قد قطعت، منذ أول مراحل الدعوة الإسلامية في مكة، إلاّ أن قطع مظاهر هذه الولاية والأسباب المؤدية إليها، إنما يكون على التدريج، وبحسب ما يمكن الله عز وجل .
المرحلة الثانية:
ابتدأت في السنة السادسة للهجرة، وهي سنة صلح الحديبية، وامتدت إلى نزول بعض آيات سورة المائدة في حجة الوداع في سنة عشر للهجرة. وفي هذه المرحلة حُـرّم نكاح كل كافرة، أو مشركة لا فرق بين كتابية ووثنية. قال تعالى:
( يا أيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعـصم الكوافر وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم )
الممتحنة : 10 .
نقل ابن حجر ـ رحمه الله ـ الاتفاق على نزول هذه الآية بعد صلح الحديبية، وأنها نزلت لإلغاء بعض شروط الصلح، وعن المصور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله:
( يا أيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات )
حتى بلغ :
( ولا تمسكوا بعصم الكوافر )
فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. رواه البخاري كما ذكر الشوكاني في تفسيره .
ويدل بيقين على صحة هذا القول، أنه لا يصح تخصيص آيتي الممتحنة والبقرة بآية المائدة التي أباحت نكاح الكتابيات، وذلك لما ثبت بالدليل، واتفاق أهل العلم أن آية الممتحنة نزلت بعد صلح الحديبية في السنة السادسة، وأما آية المائدة فنزلت في السنة العاشرة مقصوراً على الوثنيات، لوجب بيان ذلك في وقته لئلا يمتنع الناس من نكاحهن. ومعنى ذلك أن الله تعالى حرم نكاح الكوافر جملة، وبقي هذا الحكم على عمومه بضع سنين إلى أن نزلت آية المائدة التي نسخت عموم التحريم، فأحلت نكاح الكتابيات، وبقي نكاح سائر الكوافر على التحريم. ومن أهم خصائص هذه المرحلة التي حرم فيها نكاح كل كافرة ، أنها كانت مرحلة بناء سلطان الإسلام في المدينة، وهذا يقتضي تربية الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على معرفة جميع أوجه الولاية، وأسبابها، وقطعها جميعاً بينهم، وبين ملل الكفر. فكان يخشى أن يكون نكاح الكتابية ذريعة إلى موالاة الكفار، لأن مظاهر الولاية، وأسبابها، لم تكن قد قطعت كلها في ذلك الوقت، وهذا يناسب منع نكاح الكتابية لأن نكاحها قد يكون مانعاً من التوغل في قطع أوجه الولاية. وأيضاً فإن حكم الجزية وشروط عقد الذمة لم تكن قد شرعت بعد، وهذه الشروط تسد الذرائع إلى الموالاة في حالة نكاح الكتابية، فلما لم يكن يعمل بها في تلك المرحلة، كان المناسب تحريم نكاح الكتابية لأجل التوغل في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وأيضاً فإن من شرط نكاح الكتابية أن تكون محصنة، كما هو نص آية المائدة. ويراد بالمحصنة هنا العفيفة، وهذا إنما يعرف بعد أن يتم سلطان الإسلام، كما حصل في أواخر العهد المدني حين شرع العمل بعقد الذمة. وكان الكتابيون قبل ذلك خاضعين لعوائدهم الفاسدة، وسبلهم الضالة، فلا تحصل الثقة الكافية في عفة نسائهم. ويظهر من ذلك أن تحريم نكاح الكوافر جملة في تلك المرحلة له علة يدور معها، وقد عمل السلف بمقتضى هذه العلة أو العلل، فقد ورد في الخبر أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر: خل سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. رواه ابن جرير وصحح إسناده الحافظ ابن كثير في تفسير سورة البقرة ( آية 221 ) . وروي نحو هذا عن ابن عباس، كما ذكر القرطبي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إبطال نكاح المسلم للكتابية والتفريق بينهما بغير طلاق، وهذا خبر غريب جداً كما ذكر ابن كثير، فإن صح فإنه يحمل على أن النسخ إذا كان لعلة، ثم اقتضت العلة الرجوع إلى المنسوخ، فإنه يرجع إليه كما لو لم يكن منسوخاً ـ والله تعالى أعلم. وقد ورد عن عطاء كراهة نكاح الكتابيات ، رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن، كما ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري الجزء التاسع باب قوله تعالى: ( ولا تنكحوا المشركات ) . وعطاء رحمه الله من الأئمة المتقدمين، ولفظ الكراهة عندهم قد يراد به التحريم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربُّـها عيسى، وهو عبد من عباد الله . رواه البخاري في كتاب الطلاق من صحيحه، ورواه أبو محمد بن حزم في المحلى بإسناد البخاري، وإسناده من أصح الأسانيد . وقد اختار بعض أهل العلم في التفسير قول ابن عمر، وذلك لأن ابن عمر ليس ممن تخفى عليه آية المائدة التي أباحت نكاح الكتابيات ، ويحتمل عندي أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ افتى بما يقتضيه الحال والعلة القائمة ، وذلك أن الكتابية إذا كانت في جزيرة العرب، فالواجب العمل على إخراجها، وهذا يقتضي المنع من نكاحها وإقرارها، وإن كانت الكتابية خارج جزيرة العرب، فالأصل في ذلك الوقت هو المنع من نكاحها، حتى يحصل العلم بجريان سلطان المسلمين في ذلك المكان، وقطع أوجه الولاية فيه . والله تعالى أعلم. المرحلة الثالثة: وفيها أحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب، وبقي حكم سائر الكوافر على التحريم، وابتدأت هذه المرحلة في سنة حجة الوداع وهي سنة عشر من الهجرة. قال تعالى: ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الأخرة من الخاسرين ) المائدة : 5. ففي هذه الآية إباحة نكاح المحصنات من أهل الكتاب، ونزول هذه الآية متأخر عن نزول أية البقرة التي حرمت نكاح المشركات جملة، يدل على ذلك أمور: أحدها: إن آية البقرة قد فسر حكمها بعلة عامة، وهو قوله تعالى في آخر الآية: ( أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ) البقرة: 221. وإذا ظهر قصد العموم في العلة، امتنع تخصيصها ، وإنما يصح نسخ العمل ببعض مقتضى العلة إذا عارضه ما هو أرجح منه، وهذا يقتضي أن آية المائدة لم تنزل مع آية البقرة، وإنما نزلت بعدها بزمن فنسخت العمل ببعض حكمها، وسنذكر بعد قليل ـ إن شاء الله تعالى ـ العلة التي رجحت حكم آية المائدة على حكم آية البقرة في تلك المرحلة المعينة.
الأمر الثاني:
هو أن الأخبار تفيد أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وورد أيضاً ما يدل على أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة. فعن عائشة قالت: يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت: نعم، فقالت: أما أنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه. رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وغيرهم كما ذكر الشوكاني. ولفظ الخبر مطلق في سورة المائدة كلها.
الأمر الثالث: إن كل حكم شرعي ابتدأ في وقت معين نزل فيه وحي بذلك التشريع ، وهذا يقتضي أن الألف واللام في لفظ: ( اليوم ) هي للعهد أي أن الله تعالى أراد بذلك يوماً أو وقتاً معينا، سواء قلت أن لفظ اليوم في الآية يراد به اليوم المعروف، أو يراد به معنى ( الآن ) كقولك: أنا اليوم قد كبرت، تريد الآن، وتأمل بعد ذلك قوله تعالى: ( اليوم أحل لكم الطيبات ) فذكر الله تعالى الفعل: ( أحل ) بصيغة الماضي، ليقع على ما حصل وتم، وليس على ما يتوقع حصوله في المستقبل، وذكر الله تعالى: ( الطيبات ) بصيغة العموم، والاستغراق، ولم يسبقها بحرف التبعيض ( من ) ، فظاهر الآية يقتضي أنها وافقت إباحة جميع الطيبات، ومعلوم أن اباحة جميع الطيبات لم يحصل إلا بعد إتمام الدين وإكمال نزوله، فهذا يدل على أن آية إباحة نكاح الكتابيات من آخر ما نزل، وهو يدل أيضاً على أن: (اليوم ) في قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) المائدة: 3 هو نفس اليوم في قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب ) المائدة: 5. إلى آخر الآية ـ وهذا تناسب لطيف في تفسير الآيتين. والقول بأن نكاح الكتابيات كان محرماً، ثم أحل في آية المائدة هو قول الإمام مالك، الثوري، والأوزاعي ـ رحمهم الله تعالى ـ رواه ابن أبي حاتم عن أبي مالك الغفاري من التابعين. ونقل القرطبي عن أبي ميسرة ما يحتمل هذا القول ايضاً، وذلك في مقدمة تفسير سورة المائدة ـ والله تعالى أعلم ـ وله الحمد الكثير. ومما رجح إباحة نكاح الكتابيات في آخر الأمر ، هو وصول المسلمين إلى الغاية في قطع أوجه الولاية بينهم وبين الكافرين، فما ظنك بمسلم نكح كتابية، هو لا يحل له أن يسكن بينهم، ولا أن يبدأهم بالسلام، ولا أن يتشبه بهم، ولا أن يتخذهم بطانة، ووليجة، وأولياء؟؟ فمثل هذا النكاح لا يضر المسلم في الغالب، ولكن قد يكون فيه مصلحة للمسلمين، وذلك أن يبعد طائفة من الكتابيات عن ملة الكفر، ويمنعهن من إظهار الكفر في بيوت أزواجهن، ويفرض عليهن إسلام الأبناء والبنات من الأزواج المسلمين، وهذا كله وسيلة لاستدراج بعض أهل الكتاب إلى الإسلام عن طريق المصاهرة، والمعاملة الحسنة المضبوطة بضوابط شرعية، ففي هذه المرحلة أحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب. والمراد بأهل الكتاب هنا، هم الكتابيون الذين عقدوا مع المسلمين عقد الذمة، ويلحق بهم الكتابية في دار الكفر أو الحرب إذا انتقلت إلى دار الإسلام، ودخلت في عقد الذمة، وأما الكتابية التي لم تلحق بدار الإسلام فغير مشمولة محل النكاح الذي ورد في آية المائدة، لأن المسلمين مأمورون بقتال هؤلاء وليس بمصاهرتهم، قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وعم صاغرون ) التوبة 29 وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "كلكم راع ومسئول عن رعيته" رواه البخاري، وهذا الحديث يمنع من نكاح من لا تستطيع أن تكون مسئولا عن رعايتها، كالكتابية في دار الكفر أو الحرب، لأنها تتصرف في الحرام من غير رادع، وقد ينشأ أولادها على الكفر أيضاً، ـ والعياذ بالله ـ وكذلك قوامة الرجل على زوجته، هو فرض بنص القرآن، وتتعذر إقامته في دار الكفر، وهذا يوجب منع نكاح المستقرة في دار الكفر، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حرباً فلا يحل، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وعم صاغرون ) التوبة 29. قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه. وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب، لتصرفها في الخمر، والخنزير. اهـ ـ من تفسير سورة البقرة، آية 221. وجملة القول أن نكاح المسلم لغير المسلمة مر بثلاث من المراحل المعللة ، واقتضت المرحلة الأخيرة إباحة نكاح المحصنة الكتابية التي ترتبط مع المسلمين بعهد ذمة، وتحريم نكاح سائر المشركات. ومن نظر في أحوال تلك المرحلة الأخيرة لم يشك أن ذلك النكاح كان قليل الوقوع، وكان أيضاً وسيلة إلى استدارج أهل الكتاب إلى الإسلام من غير أن يقدح في إخلاص الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين ـ والله تعالى أعلم وله الحمد الكثير.
أخي المسلم نأمل من المولى عز وجل أن لا تتخذك العصبية بالرأي وإطلاق الأحكام التي لا تستند على دليل من القرآن والسنة ، واتقي الله في ذلك واسمع وأطع لقول الله تعالى ولسنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
نقلا عن كتاب: فقه مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة
|