بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه أجمعين،
وأما بعد:
جاء في كتاب "نظرات في السياسة الشرعية-الشورى
المفترى عليها
والديمقراطية-مع مناقشة الشيخ يوسف القرضاوي حول الشورى
والديمقراطية"
الفصل الرابع تحت عنوان: "مناقشة الشيخ يوسف القرضاوي في
موضوع
الديمقراطية"، لمحمد بن محمد الفزازي، وهو مغربي، ما يلي:
كلمة في التقليد:
المشكلات في حياة الدعوة الإسلامية كثيرة
ومتنوعة، ومن أبرزها وأخطرها
التقليد. والتقليد تأسٍّ بالرجال من غير دليل. وإذا كان
يجوز التقليد للعامي الأمي
للضرورة، فإنه يحرم على من يستطيع التمييز بين الأدلة الشرعية،
ويعرف شيئا
من العربية... أن يُسْلِس قياد دينه وعقيدته إلى أمثاله
من الناس، فإن في ذلك
مصادرة لشخصيته، وإعداما لعقله، وتعطيلا لفكره... بل وعصيانا
لربه سبحانه،
ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله
ويغفر لكم ذبونكم والله غفور رحيم) -آل عمران 31- لذا فإنني
أناشد الإخوة
الكرام، طلاب الحق، أن يتمعنوا مليا في ما نطرحه من دلائل
واستشهادات ونحن
نحاور الشيخ يوسف القرضاوي حول موضوع الديمقراطية. وأرجو
أن يكون
الدليل الشرعي هو وحده الحَكم بيننا، طاعة لله تعالى: (فإن
تنازعتم في شيء
فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
ذلك خير وأحسن
تأويلا) -النساء 59- (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى
الله) -الشورى 10-.
قال العلامة الشيخ محمد صدّيق حسن في كتابه "الدين الخالص":
"فليس لعالم ولا
متعلم، ولا لمن يفهم وإن كان مقصرا أن يقول: إن الحق بيد
من يُقتدى به من
العلماء إن كان دليل الكتاب بيد غيره، فإن ذلك جهل عظيم،
وتعصب شديد،
وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يُعرف بالرجال،
بل الرجال
يُعرفون بالحق... وليس أحد من العلماء المجتهدين، والأئمة
المحققين بمعصوم،
ومن لم يكن معصوما فهو يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب،
فيصيب
تارة ويخطئ أخرى... ولا يتبين صوابه من خطإه إلا بالرجوع
إلى دليل الكتاب
والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب وإن خالفهما فهو مخطئ".
الديمقراطية كفر حقا:
نشرت جريدة الصحوة المغربية في عددها الثالث
والخمسين مقالا مطولا للشيخ
يوسف القرضاوي تحت عنوان: هل الديمقراطية كفر حقا؟ جاء
فيه ما نعتقده مخالفا
للإسلام مما لنا فيه من الله برهان، وعلينا البيان. ذكر
الشيخ
القرضاوي ما اعتبره جوهرا للديمقراطية ثم بنى عليه أحكاما
حسبها شرعية
باستخدام بعض قواعد الأصول تعسفا لعله يضفي على النِّحلة
صبغة إسلامية..
وحيث إن مقالات الشيخ لها تأثيرها البالغ على بعض الناس،
حتى إنّ اجتهاداته
تقع في حُضن المسلّمات عند كثير من المقلدين، فإن الواجب
الشرعي، ولا أقول
حق النقد والرد فقط، يفرض علينا إرجاع الحق إلى مجراه حيث
ينساب انسيابه
على هدي من الله.. وإعادة طائشات الأفكار إلى معاقلها،
وعقلها ثانية بعقال
الكتاب والسنة خدمة للدين وإبراء للذمة وهداية للحيارى
حتى لا ينشز منا ناشز
حبيب أو يغزونا في عقر دارنا غزو من الفكر الغريب... إن
قراءة متأنية واحدة
لمقال الشيخ القرضاوي تكفي لإدراك ما فيه من خلط عجيب بين
المتناقضات
وخبط غريب في الضروريات... فالنصوص القرآنية والأحاديث
الشريفة وغيرها
من الآثار المعتمدة، جاءت في جلها إن لم أقل في كلها على
غير منازلها، من
حيث الإستشهاد بها لصالح الديمقراطية. ولو أن الشيخ استشهد
بنفس النصوص
على فسادها لوافق الصواب يقينا... لقد تحدث في مقاله عن
جوهر الديمقراطية
ولبابها بعيدا عن الصورة والعنوان والتعريفات الأكاديمية-كذا
قال-وهذا الجوهر
أو اللباب في نظره هو "أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس
أمرهم، وألا يُفرض
عليهم حاكم يكرهونه أو نظام يكرهونه وأن يكون لهم حق محاسبة
الحاكم إذا أخطأ
وحق عزله إذا انحرف وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج
اقتصادية أو
اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها".
هذا هو جوهر
الديمقراطية ولبابها عند الشيخ وهو ما يصفه في فقرة أخرى
بقوله: "فهو بالقطع
متفق مع جوهر الإسلام". ولست أدري كيف غاب عن الشيخ يوسف
أن جوهر
الديمقراطية ولبابها ليس هو هذا الذي ذكره، بل هو ما يعلم
كل باحث في هذا
الوعاء "الديمقراطية"، وفي حمولته الفكرية والآلية التي
ليست لهما معا مسحة من
المصداقية الشرعية مبنىً ومعنىً، شكلا ومضمونا... إن جوهر
الديمقراطية بغض
النظر عن المصطلح، الذي أرفضه رفضا تاما لما لقبول المصطلحات
الأجنبية من
استلاب لقداسة مصطلحاتنا الأصلية الأصيلة، ولما للمصطلحات
عامة من تلاحم
بين القلب والقالب من غير انفكاك.. ولا سيما والقضية هنا
قضية الكليات والثوابت
حيث الممانعة، لا قضية المستجدات القابلة للإجتهاد والمطاوعة...
أقول: بغض النظر عن الإسم والعنوان فإن جوهر الديمقراطية
ولبابها هو استمداد التشريع كله من الشعب في أشخاص منتخبيه، الأرباب من دون
الله. وإن روح الديمقراطية
ولبابها هو العلمانية ذاتها التي ظهرت ردة فعل للثيوقراطية
في أسّها وأساسها..
وإن عُصارة الديمقراطية وخلاصتها وصفوتها هي الليبرالية
المتسيّبة بين دهاليز
الحريات الأربع: السياسية والفكرية والشخصية والمِلْكية.
وهي الأركان المقدسة
التي تكفلت بشرحها ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
منذ تسع وأربعين عاما
وتكلفت بحمايتها الصهيونية والصليبية العالميتان.. الشيخ
يعلم ولا شك مدى الكفر
والشرك في ذاك الإعلان حيث نص في كثير من مواده على المساوات
المطلقة
بين العباد، بغض النظر عن الجنس والدين.. مساواة في كل
شيء على الرغم من
تشريع رب العالمين: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)-السجدة
18-
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون)-القلم35.36-
(كنتم خير أمة
أخرجت للناس)-آل عمران 110-... وبخصوص الجنسين الذكر والأنثى
فلا
يخفى ما بينهما من فوارق في الخِلقة والتكوين والوظائف
الفطرية والعضوية
وبالتالي في المهمات الإجتماعية المنوطة بكل منهما (وما
خَلَقَ الذّكر والأنثى إنّ
سعيكم لشتّى)-الليل 3.4- كما نص ذلك الإعلان على حرية الدين
والتدين بين كل
البشر لا وفق ما حكمت به شريعة الله تعالى ولكن وفق أهواء
اليهود والنصارى
الذين يهدفون من وراء هذه الشريعة الدولية إلى القضاء على
الإسلام بمصطلحات
السلام ومنع الحروب للحيلولة دون استئناف المسلمين لفريضة
الجهاد، يريدون أن
تكون كلمة الله هي السفلى، قاتلهم الله... وبناء عليه فقد
أعلنت الديمقراطية في
ثوابتها عن تمكين الإنسان من اختيار عقيدته دون تدخل من
أحد، والإعراب عن
هذه العقيدة والدعوة إليها، ودائما دون تدخل من أحد، وأعلنت
عن حق تبديل الدين
سراّ وعلنا ولا دخل في ذلك لأحد.. تقول المادة الثامنة
عشرة من الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير
والدين ويشمل هذا
الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنهما
بالتعليم والممارسة
وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم جهرا متفردا
أم مع الجماعة"..
هذه إحدى أهداف الديمقراطية الكبرى وهي أفكار ليس في القول
بها إلا الردة عن
الإسلام لمن كان مسلما.. وفوق هذا كله فقد أعلنت الديباجة
الأممية عن مصدر
التشريع الوحيد لكل الأمم، ألا وهو الشعب في أغلبيته المنبثقة
عن اقتراع "حر
ونزيه". وفي ذلك تقول المادة الحادية والعشرون في نقطة
ثالثة: "إنّ إرادة الشعب
هي مصدر سلطة الحكومة..." أرأيت يا شيخ جوهر الديمقراطية
ولبابها؟ إن
الواجب يفرض علينا عرض الواقع الديمقراطي كما هو على عين
الشرع الحنيف
ليقول فيه كلمته، ولتعلم الأمة قاطبة حكمه كي يتسنى لها
الإختيار بين الإسلام
والكفر وبين السلم والحرابة. أما محاولة البحث عن نقط الإلتقاء
بين التوحيد
والشرك وتتبُّع نصوص الإسلام للدفاع بها عن الجاهلية فذاك
غاية في السوء
والشناعة في حق الدين والأمة سواء... ولقد أشار الشيخ إلى
رفض الإسلام
للإستبداد والظلم والعلو والإستكبار.. وضرب لذلك أمثلة
متعددة مثل موقف
القرآن الكريم من فرعون وهامان وقارون.. والحق يقال كان
كلاما جميلا من
الشيخ وما أفسده عليه سوى استشهاده به على تسويغ الديمقراطية
والدعوة إليها
باعتبارها الخلاص من كل استبداد والنجاة لكل العباد، في
نظره، ولقد أخطأ ـ
والله ـ في ذلك إلى حد بعيد. فإذا كان الإستبداد والتسلط
ممّا قاومه الإسلام وجرد
له السيوف ووعد الشهداء جنة عرضها السماوات والأرض، فمعاذ
الله أن يستبدل
استبدادا باستبداد أو فسادا بفساد، وجاهلية بجاهلية...
ما هو الإستبداد؟
إنه التسلّط على مصالح الناس، والعبث بها
ذات اليمين واليسار، والإنفراد بالقرار
داخل بطانة نفعية ومحمية بالحديد والنار. نعم، لقد كان
فرعون مستبدّا، وكان
النمرود مستبدّا، وكان غيرهم كثيرين مستبدين، والمستبدّون
اليوم في كل مكان.
لكن دون مَن يستبدّون بالرأي والنظر؟ بل بالتشريع والتنفيذ
والتأصيل والتّفريع؟
سيقول الديمقراطيون “أعداء الإستبداد”: إنهم يستبدّون بذلك
كله دون الشعب،
ويستبدّون بثروات وخيرات الشعب دون الشعب... ويضربون عرض
الحائط في
النهاية مطالب الشعب، بل ويضربون الشعب نفسه عرض الحائط..
وهذا واضح.
ولكن الذي يحتاج إلى الوضوح، هو أن الديمقراطية، علاوة على
ما ذكرناه آنفا
من حيث جوهرها.. تمثل عين الإستبداد، وذلك بالإنفراد بالتشريع
والتنفيذ، استبداد
دون الله تعالى، ودون كتابه العزيز وسنّة نبيه صلى الله
عليه وسلم الحنيفية
السمحة. ولن يجد الشيخ في حياة البشر كافة، ديمقراطية واحدة
تؤمن بشرع الله
تعالى وتتّخذه الحُكم والحَكم، به تعدل وعلى هديه تهتدي
ـ ولا واحدة ـ فلماذا
المغالطة وتسمية الأشياء بغير أسمائها، متذرّعين بذريعة:
العبرة بالمسميات
والمضامين، لا بالأسماء والعناوين؟ فها هي ذي المسميّات
والمضامين ناصعة
ساطعة على حقيقتها: تشريع بغير ما أنزل الله، وحُكم به.
سلطة تفرِضه، والويل
لمن يرفضه... فإذا اتّضح هذا، وهو واضح صابح والحمد لله،
ماذا يفيد الكلام بعد
ذلك في مجال الشورى والإنتخاب ومحاولة التوفيق والتلفيق
بينهما؟
لقد قارن الشيخ القرضاوي بين الشورى والإنتخاب وقارب بينهما،
وفي نفس
الوقت أبطل تلك المقاربة المزعومة إبطالا، من حيث لم يدر،
عندما أكّد على أنّ
الشورى لا تكون في ثوابت الدين وكلياته، وأنها لا تُقبل
إلا من ذوي العدل
والإستقامة، وفي مجالات اجتهادية بحتة.. فماذا يريد الشيخ
بعد هذا الذي عَلِمه من
الشورى، ويعلم أنه بعيد كل البعد عن العملية الإنتخابية
في أنحاء الدنيا برمّتها؟
وإلا هل عندكم علم بديمقراطية واحدة في الأرض كلها، لا
أقول في تطبيقاتها
وآلياتها فقط، بل في جوهرها ولبابها أيضا، واحدة تؤمن بأصول
الإسلام وقواعده،
ولا تناقش في ذلك أو تستفتي الشعوب فيه، وأنها فقط تستفتي
الأمة في دائرة
الإجتهاد، ولا شيئ إلا في دائرة الإجتهاد، وتفعل ذلك في
نطاق الصالحين
المصلحين؟ أين؟ ومتى كان ذلك؟ نعم، كان ذلك يوم كان الناس
مسلمين، ولكنه
كان إسلاما وليس ديمقراطية، شورى شرعية، وليس انتخاباً
شعبياً...
فهل يجهل الشيخ كيف تتم الإنتخابات هنا وهناك؟ هل يجهل أنّ
الأصوات ـ وهي
شهادات ـ داخل الصناديق موضوعة من طرف كل من هبّ ودبّ من
الفسّاق
والمجاهرين بالمعصية على اختلاف أنواعها، بل ومن الكفار
والملاحدة من بني
جلدتنا؟ طبعاً هناك أيضاً مسلمون، ولكنهم لا يعلمون. فما
قيمة هذه الإنتخابات من
الناحية الشرعية إذن، وربّنا سبحانه يقول: (ولا تَقْبَلوا
لهم شهادةً أبداً وأولئك هُمُ
الفاسقون) ـ النور 4 ـ؟
إنّ الإنتخابات الديمقراطية في أنحاء المعمور، ما وُضعت
أبداً من أجل اختيار
المصلحين من طرف الصالحين، ولا من أجل تقريب أهل الفضل
والعِلم للنظر في
مستجدّات الأمّة، ولا هي وُضعت أبداً سعياً في الوئام والمحبّة
بين النّاس.. إنما،
كما يعلم الجميع، كلما ضربت البلاد جائحة انتخابية، إلاّ
أتت على الأخضر
واليابس، وتركت عباد الله أعداءً ألدّاء، بعد أن كانوا
إخوانا رحماء.
بدعة في الإستدلال:
لقد نعت الشيخ الدكتور ـ سامحه الله ـ الذين
يقولون بكفر الديمقراطية
بالسّطحيّين المستعجلين.. وهو حُكم لا يخفى ما فيه من السطحية
والإستعجال. وإن
صحّ أنهم سطحيون ومستعجلون، فأيْمُ الله، لَذلك أهون وأخفّ
في سُلّم الخطايا،
على افتراض أن ذلك من الخطايا، من التّعمّق والتؤدّة ثم
القول بما يخالف الحق..
ولقد خالف الدكتور الحق في هذه القضية مخالفة فظيعة، سواء
على مستوى
الإدراك للمسألة، أم على مستوى الإستدلال عليها.. وإلا
هل يُعقل لمن كان في
مستوى الشيخ العلمي، أن يستدل على صحة الديمقراطية ومشروعيتها،
بكون
شعوب العالم تكافح من أجلها، وبكون الجماهير الغفيرة هنا
وهناك تصارع بمرارة
من أجلها، وبكون ضحايا بالألوف والملايين سقطت في أوروبا
الشرقية وغيرها
من أجلها؟ ثم زاد استدلالا على صحتها قائلا: “والتي يرى
فيها (أي الديمقراطية)
كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحُكم
الفردي، وتقليم أظافر
التسلط السياسي الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة... إلخ.”
فما هذه البدعة يا شيخنا في دنيا الإستدلال والإستشهاد؟
متى كانت الجمهرة دليلا
عند العلماء في مجاوزة صحيح النقل وصريح العقل؟ وجمهرة
من؟ جمهرة أوروبا
الشرقية الشيوعية، وصنوتها في البلاد الغربية، وآخرون..
أهكذا يُنسى قوله
تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إنْ
كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا) ـ النساء 59 ـ
لو كان الأمر بالكثرة لرجحت كفّة البابا، وكفة الشيوعيين
في الصين وغيرها. ولا
يقال بأن الحديث منصبّ على العالم الإسلامي، والمفروض في
أغلبيته أنها مسلمة
عاقلة عالمة شاكرة، وأن الإستشهاد بمثل قوله تعالى: (ولكنّ
أكثرَ النّاس لا
يَعْلَمون) ـ هذه الآية تكرّرت في القرآن الكريم إحدى عشرة
مرّة ـ إستشهاد
ساقط. فأوروبا الشرقية وغيرها مما ورد الإستشهاد به في
بحث الدكتور وتحليله،
ليست منّا ولا نحن منها. وما دمنا لا نتحدث عن مجتمع الجاحدين
أو الضالّين عن
سبيل الله، كما أشار الشيخ إلى ذلك مرة، فلماذا التلويح
بضحايا أوروبا الشرقية
وجماهير أخرى من الشرق والغرب في سبيل الديمقراطية؟
هل هذا الواقع الضخم يمكن أن يغيّر من الحق شيئا؟ أبداً.
هل لأنهم كثير؟ فليكن..
(أليس في جهنّم مثْوىً للكافرين) ـ العنكبوت 68 ـ و ـ الزمر
32 ـ . وقبلها
سقط الملايين من "الضحايا" في سبيل الشيوعية. فليكن.. ماذا
يغير من الحق؟
وعشرات الملايين من البشر سقطت خلال الحربين العالميتين
في سبيل هتلر
والنّازية وغيرها، فليكن.. ماذا يغير من الحق؟
لا، ليس هذا هو ميزان البحث في الشرع الإسلامي أبدا. إنّما
الميزان هو الشرع
الربّاني وحده.. آمن به من آمن وكفر به من كفر..
قال الشيخ القرضاوي في فقرة أخرى من مقاله: "إنّ الإسلام
قد سبق الديمقراطية
بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها".. وهذا كلام خطير
جداّ.. كلام فيه
سطحية واستعجال بكل تأكيد: لقد ذكرنا في ما سبق أنّ جوهر
الديمقراطية هي
السيادة لغير الله تعالى في التشريع، وهي العلمانية والحريات
الأربع وما يترتّب
عليها من انحلال للأخلاق والقيم، ومن انتشار الدعارة والشذوذ،
والعاهات
الإجتماعية المتنوعة، والآفات والأوبئة.. بل من انتشار
للكفر والشرك على أوسع
نطاق.. ولا داعي لحجب ضوء الشمس بالغربال. والإسلام العظيم
منزّه عن هذا
الضياع والضلال.. وهو الدين الذي أنزله الله تعالى لتحرير
الأنام.. فكيف يكون
سبّاقا لتأليه الشعوب، أو آذناً للنواب أن يكونوا أرباباً
من دون الله؟ (شَرَعَ لكم مِن
الدِّين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك..) ـ الشورى
13 ـ (أمْ لهم شركاء
شَرَعوا لهم مِن الدّين ما لم يأذن به اللهُ) ـ الشورى
21 ـ
أيسبق الإسلام الديمقراطية في تحكيم البشر وهو القائل (ألم
ترََ إلى الذين يزعُمون
أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك يُريدون أنْ
يتحاكموا إلى الطاغوت
وقد أُمروا أنْ يكفروا به ويريد الشيطان أنْ يُضِلّهم ضلالاً
بعيداً. وإذا قيل لهم
تعالوا إلى ما أنزل اللهُ وإلى الرسول رأيتَ المنافقين
يصُدّون عنك صُدوداً.......
فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثمّ
لا يجدوا في أنفسهم حرجاً
ممّا قضيتَ ويُسلِّموا تسليما) ـ النساء 60/65 ـ
صحيح ، إنّ الشيخ ليس ممّن ينكر هذا، وحاشاه أن يفعل.. ولكنّه
لم يُدرك للأسف،
جوهر الديمقراطية ولبابها على الحقيقة، وليس وراء عدم إدراك
التّصوّر السليم،
إلا الحُكم السقيم، والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره..
لقد صنع الشيخ للديمقراطية جوهرا غير جوهرها، ونفخ فيها
روحا لا تناسبها.. ثم
بنى على الخطإ ركاماً من الأخطاء. ولا عجب، فإنّ المنطلق
المعوجّ لا يستقيم له
مسار. وقد قيل لبدويّة ـ حسب ما يحكى ـ إنّ زوجك قد سقط
عن راحلته،
قالت: الأمر متوقّع، من الدار خرج مائلا.
ويرى الشيخ بعد هذا أنّ ميزة الديمقراطية هي: "أنّها اهتدت
خلال كفاحها الطويل
مع الظّلَمة والمستبدّين، من الأباطرة والملوك والأمراء،
إلى صيغ وسائل تُعتبر
إلى اليوم أمثل الضّمانات لحماية الشعوب من تسلّط المتجبّرين”
فمن يعتبر هذه الصّيغ والوسائل أمثل الضمانات لحماية الشعوب..؟
هل من يؤمن
بالله واليوم الآخر؟ أم الذين لا خلاق لهم ولا دين؟ أنسيت
يا شيخ أنّ الضمانات
الوحيدة لحماية الإنسان، فردا وجماعة، هو الإسلام؟ أنسيت
أنّ الإهتداء بغير هدى
الله وهدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الغوص والتّيه
في ظلمات الجهل
والجاهلية، لا محالة؟ فمن يُخرجنا من الجور والتّسلّط والإستعباد
والإستبداد؟
الإسلام أم الديمقراطية؟ الله تعالى أم الشعب؟ إنّنا نقرأ
في كتاب ربِّنا (اللهُ وليُّ
الذين آمنوا يُخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور والذين كفروا
أولياؤهم الطّاغوتُ
يُخرجونهم من النّور إلى الظلمات أولئك أصحابُ النّار هم
فيها خالدون) ـ البقرة
257 ـ
ديننا كامل:
ثم إنّ الشيخ لم يكتف بتبجيل ما اعتبره ميزة
حسنة للديمقراطية، على فداحة الزّيغ
في ذلك، ولكنه واصل القول أن: "لا حرج على البشرية وعلى
مفكّريها وقادتها،
أن تفكّر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أرقى
وأمثل، ولكن إلى
أن يتيسّر ذلك، ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا
أن نقتبس من أساليب
الديمقراطية ما لا بد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام
حقوق الإنسان والوقوف
في وجه السلاطين العالين في الأرض"
إنّ هذا الكلام أولى به مَن لا دين له.. إنه كلام من يجهل
حقيقة الإسلام الشاملة
الكاملة.. وهو قول يُفهم منه بالإضطرار أن الإسلام ليس
فيه من الأحكام
والتشريعات، نصّاً وظاهراً واستنباطاً، ما يضمن الإهتداء
إلى أرقى وأمثل ما
يكون، وليس فيه ما يحقق العدل والشورى وحقوق الإنسان الشرعية،
وليس فيه
كيفية الوقوف في وجه الطغيان كيفما كان، ومن أي كان.. وهذا
خطير، غاية في
الخطورة..
عجيب هذا النصح للبشرية ومفكريها وقادتها.. وأعجب منه أنه
من رجل
أزهري.. فماذا دهانا؟ وأية فاجعة، وأي رزية هذه في علمائنا؟
إنّ العدل والشورى وحقوق الإنسان، من الكلّيات والثوابت
والضروريات في
الإسلام. وقد ورد في ذلك عديد من الأحكام غاية في الإحكام..
مئات الآيات
والأحاديث في الموضوع نقفز عليها قفزاً ونقول: "نرى لزاماً
علينا أن نقتبس من
أساليب الديمقراطية ما لا بد منه لتحقيق العدل..."
مَن يُلزم المسلمين باقتباس الكفر والظلم وإهانة الإنسان..؟
وهم يقرأون في كتاب
الله (إنّ هذا القرآنَ يهدي للّتي هي أقْوم) ـ الإسراء
9 ـ يهدي للتي هي أقوم في
كل شيء، وخاصة في ما يضمن الكلّيات الخمس الأساسية: الدين،
والنّفس،
والنّسل، والعقل، والمال. ويعلم الشيخ القرضاوي كم ورد
من نصوص رائعة
جامعة مانعة في التّأكيد على هذه الحقوق، ووضع الإجراءات
الكلية والتّفصيلية
قصد الإستيعاب والتّطبيق.. أيعقل لمن هذا دينه أن يقتبس
من مزابل الأفكار
الغربية والشرقية ما “ينظّم” به حياته الإجتماعية والسياسية
والإقتصادية..
وغيرها؟
إلى أي شيء نفتقر نحن المسلمين، في المجال السياسي والحكم
والتّشريع؟ وهذا
كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين
أيدينا، زيادة على أطنان
من كنوز الفقه والتّجربة التاريخية في مجال الإجتهاد والنظر،
وهي، مع الكتاب
والسنّة، ثروة هذه الأمة التي لا تُقدّر بثمن.. فمن لا
يجد فيها الوسيلة المثلى في
إقامة الحكم العادل، والعدل الحاكم، فدونه مستنقع اليهود
والنّصارى، يشرب منه
الأذى والموبقات...
وإلى أي شيء نفتقر نحن المسلمين، في المجال الإجتماعي والتكافل
وصيانة
الأسرة..؟ وهذا ديننا لا يضاهى فيما أصدره من نصوص وتوصيات
في هذا
المقام، نصوص يعلم منها الشيخ القرضاوي الكثير.. ويعلم
أنها بالمئات في ضبط
علاقة الأفراد والجماعات فيما بينهم ضبطاً غاية في العدل
والإتّزان: بين الوالد
وولده، بين الجار وجاره، والغني والفقير، والعالم والمتعلم،
وبين الحاكم
والمحكوم.. بين الرجل والمرأة، والكبير والصغير.. تشريع
وأيّ تشريع، سبحان
من أنزله.
وفي مجال حقوق الإنسان؟ أي حقوق يعني الشيخ القرضاوي؟ هل
حقوق
ديمقراطية، حسب توصيات المنظمات العالمية، المنبثقة عن
هيئة الأمم المتحدة،
والتي تُعطي الإنسان الحق في أن يعتقد ما يشاء، ويدعو إلى
ما يشاء؟ والحق في
امتلاك واكتساب ما يشاء، وإنفاقه في ما يشاء؟ بل ويبدّل
دينه إن شاء، متى شاء؟
(راجع المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)
أم الحقوق المنبثقة من قول الله تعالى: (ولقد كرّمنا بني
آدم...) ـ الإسراء 70 ـ
؟ والمفصلة في آيات وأحاديث وسنن يفقهها من كان له قلب
أو ألقى السمع وهو
شهيد.. فسبحان رب العزة عما يصفون، وهو القائل: (ما فرّطنا
في الكتاب مِن
شيء) ـ الأنعام 38 ـ نصًّا أو ظاهراً أو استنباطاً، مرة
أخرى.
إنّ الإقتباس من الغير، لا حرج فيه ولا ضرر ولا ضيْر، فيما
لا نصّ فيه بكل
تأكيد ـ وهذا الحكم نفسه من تأصيل علمائنا واستنباطاتهم
من الكتاب والسنّة
نفسهما ـ وهو ما يندرج تحت قاعدة المصالح المرسلة، وحيث
ما كانت مصلحة
العباد فثمّ شرع الله.. الشّرع الذي ما جاء إلاّ لجلب المصالح
ودرء المفاسد، قضاءً
مقضياًّ.
قواعدنا العلمية لها مناطها:
أما الإعتماد على قواعد أصولية للخوض في مبادئ
الديمقراطية، فهو أمر غريب،
بل مضحك.. لأنّ آليتنا العلمية لم توضع أبداً لإستعمالها
في أجواء غير أجوائنا،
ومناخات غريبة علينا، وإنما هي قواعد وُضعت لضبط الفهم
وتقويم الإستنباط، لا
من أجل تسويغ واستساغة كل منتن خبيث.
أرأيت قواعد اللغة العربية مثلاً، من نحو وصرف، أيمكن استعمالها
في تقويم غير
اللسان العربي؟ طبعاً لا.. فكل لغة لها قواعدها الخاصة
بها، لا تنفع في غيرها..
وما نقوله في اللغة نقوله في علوم القرآن والحديث، وعلوم
الإسلام الأخرى من
بلاغة وأصول ومنطق وأدب..إلخ. لذا فإن استعمال علم الأصول
في مجال
الديمقراطية أو أي مجال آخر غير مجالها، يعدّ ضرباً من
التّعسّف لا يليق بأمثال
الشيخ القرضاوي.
فقاعدة "ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب" على سبيل المثال،
وهي مما اعتمده
الشيخ في دفاعه عن الديمقراطية، ليس هذا هو موضوعها. وهبْ
أنّ الأمر فيه
توسعة، جدلا، فالقاعدة حجة عليه بكل اعتبار.. فهل حقًّا،
لا يتم واجب العدل
والشورى وحقوق الإنسان (الشرعية) وغيرها من الحقوق، إلا
بالديمقراطية؟ أم
يتم كل ذلك وأكثر، بشكل أيسر وأظهر، بالإسلام العظيم، وما
أدراك ما الإسلام
العظيم؟
والعجب كل العجب أنّ الدكتور يقرر في مقاله "أنّ من حقنا
أن نقتبس من غيرنا
من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا.. ما دام لا يعارض
نصًّا مُحكماً، ولا
قاعدة شرعية ثابتة.." فكأنّ الديمقراطية عند الشيخ في أصولها
وآليتها، لا تعارض
نصًّا محكماً أو قاعدة شرعية ثابتة. في حين، وعلى نحو ما
قرّرنا مما لاخلاف فيه
عند كل من شمّ للديمقراطية رائحة، تصطدم هذه النِّحلة مع
الدين كله، عقيدة
ووسيلة وغاية.
وحتى ما وضعه الشيخ نفسه من مفهوم للديمقراطية، وهو ما سمّاه
اللباب
والجوهر قائلاً: "أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم،
وألاّ يُفرض عليهم
حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة
الحاكم إذا أخطأ،
وحق عزله إذا انحرف، وألاّ يُساق الناس إلى اتجاهات أو
مناهج اقتصادية أو
اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها"
حتى هذا ، هو غير
مسلّم عندنا، ولا مقبول لدينا بهذه الإطلاقات والتّخليطات.
فكلمة "الناس" على
إطلاقها في كلامه تحتاج إلى قيد، وقيدها أن يكون المقصود
بالناس، ليس فقط
المسلمين، ولكن خاصّتهم من العلماء أهل الحل والعقد.. لا
كل من هبّ ودبّ.
فالعامة تبعٌ للعلماء بالضرورة، لأن العلماء ورثة الأنبياء،
كما في الحديث.
أما قوله: "وألاّ يُساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية
أو اجتماعية أو ثقافية
أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها" فماذا لو كانت مناهج
الإسلام
الإقتصادية والإجتماعية.. إلخ، هي التي لا يعرفها الناس،
ولا يرضون عنها؟ وأنّ
مناهج الإستعمار، في المقابل، هي المعروفة والمألوفة، وهي
التي يرضون عنها؟
وأظنني لست في حاجة إلى تذكير الشيخ القرضاوي بأنّ الجمهوريات
في البلاد
الإسلامية، وفي ما يُسمى بالعالم الثالث كله، حتى بمفهوم
الغرب نفسه
للديمقراطية، ليس الناس هم الذين يختارون حاكمهم ونظم حُكمهم
ومناهج حياتهم
السياسية والإقتصادية.. إلخ، ولا يستطيعون مناقشة الحاكم
واستفساره، فضلاً عن
عزله وخلعه. وإنما يُنصّب حاكمهم قهراً، على رغم أنوفهم،
من طرف المؤسسات
العسكرية، مهما قال الناس: لا، ليس هذا من نريد.. وأنّى
لهم أن يقولوا ذلك.. فإن
أصرّوا أو تمرّدوا، فالويل لهم ولما أرادوا.
والمثال؟ كلهم مثال.
ولا شك أنّ الشيخ يعلم جيداً نظام الحكم في الإسلام، وشروط
الحاكم فيه، وشروط
بيعته، وعلى أي أساس يُبايع. وأنه متى بويع، لا يُغيّر
ولا يُعزل ولا يُخرج عليه
مدى الحياة، إلا بشروط أخرى حدّدتها الشريعة الإسلامية،
وهي مبسوطة في كتب
الفقه المتعلّقة بالأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية..
وهذا ما يناقض الديمقراطية
كلّياً وجزئياً، فالصورة والمضمون في ذاك "النظام" ـ وما
هو بنظام ـ متباينان
جملة وتفصيلاً مع الصورة والمضمون في النظام الإسلامي.
ثم، أليس المفروض مرة أخرى، أننا نتحدّث عن الديمقراطية
في مجتمع مسلم؟
فكيف يكون مسلماً وهو لا يرضى أن يُساق إلى مناهج اقتصادية
وسياسية..إلخ،
وهي من صلب دينه وعقيدته؟ وكيف يجهل الإسلام ولا يرضى عنه
وهو مسلم؟
ولماذا تُطرح عليه هذه النِّحل ابتداءً وهو مسلم، بين يديه
كتاب الله وسنّة رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم؟ أم تُرى هذا لا يكفي؟
صحيح، قد يُلبّس الأمر على المسلمين، ويُطرح الكفر بين يديهم
بجلباب إسلامي،
وهذه مشكلة أخرى. وأخشى أن يكون مقال الشيخ نفسه، هذا الذي
تصدّينا للردّ
عليه، هو أيضاً من هذا القبيل.
حكم التخلف عن الإنتخاب:
استوقفتني ملياّ هذه العبارة في مقال السيد
القرضاوي: "ومن تخلّف عن واجبه
الإنتخابي، حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا
يستحق.. ممّن لم
يتوافر فيه وصف (القوي الأمين) فقد كتم الشهادة أحوج ما
تكون الأمة إليها” ثم
استشهد على ذلك بقوله تعالى (ولا يأبَ الشّهداءُ إذا ما
دُعوا) ـ البقرة 282 ـ
وبقوله عزّ ثناؤه (ولا تَكتُموا الشّهادةَ) ـ البقرة 283
ـ فقلت: سبحان الله!
نصوص إسلامية على غير منازلها.
ولنبدأ بمقارعة الحجة بالحجة حول هذه العبارة أولاً بأول:
فكلمة "مَنْ" في بداية
الجملة، والتي هي من صِيغ العموم، مَن المقصود بها؟ أهو
الشخص حسب
المواصفات الإسلامية والشروط الشرعية، أي البالغ سنّ الرشد
الشرعي، الخيّر
الشّيّر، (وأشهِدوا ذويْ عدلٍ منكم) ـ الطلاق 2 ـ العالم
بدينه وواقعه (وما شهدنا
إلاّ بما علِمنا) ـ يوسف 81 ـ وكل ذلك بغضّ النظر عن جنسه
وجنسيته؟ أم هو
الشخص حسب المواصفات القانونية والشروط الدستورية، أي البالغ
سنّ الرشد
القانوني ـ وهو يختلف من قانون لآخر ـ الحامل لجنسية قطره
وعشيرته،
بصرف النظر عن دينه وعدالته؟
إنّ لنا ـ نحن المسلمين ـ في هذا تفصيلاً، كما يعلم كل من
يعرف الإسلام.. وقد
سبق القول بأنّ الإنتخاب شهادة.. وهذه نقطة اتّفاق. والشهادة
للتّذكير، تقتضي
تحقق شروط وانتفاء موانع.. ومن شروطها العدالة، كما سبق.
ومن موانعها
الفسق، كما سبق أيضاً.. علاوة على شرط آخر، لا يعلم الصدق
فيه إلاّ الله تعالى،
وهو أن تكون الشهادة لله (وأقيموا الشّهادةَ لله) ـ الطلاق
2 ـ
ثم نأتي إلى كلمة "واجبه الإنتخابي" في جملته السابقة..
وأقول: إنها لغة دخيلة
مستوردة، إلا أنها عند التقصّي والتّحقيق، أي عند معرفة
أهداف الإنتخابات
الديمقراطية ومنطلقاتها ووسائلها، لا تكون غير واجبة فقط،
بل يكون الأداء لها،
على نحو ما قرّرنا، مُحرّماً شرعاً، بل هو يُفضي إلى الردّة
والخروج عن
الإسلام، في حق من أصرّ واستمرّ مع مجيء البيّنة.
وأجدني مضطرّا مرة أخرى إلى تذكير الشيخ بأن مسألة الأغلبية
في الشريعة
الإسلامية، إنما هي حالة لها نطاقها ومناخها، وهي حق فيما
إذا كان هناك مجلس
استشاري من الخيّرين الشّيّرين حسب المواصفات الشرعية،
ثم احتاجوا إلى عملية
ترجيحية في مسألة اجتهادية.. فعندها نردّد حديث ابن عمر
رضي الله عنهما:
"عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة فإنّ الشيطان مع الواحد
وهو من الإثنين أبعد"
الحديث ـ رواه الترمذي
دندنة حول منصب يوسف عليه
السلام:
هذا وفي عبارة الدكتور السابقة ما يستدعي
الكثير من البحث والتدقيق، ولا سيما
بخصوص قوله (القوي الأمين) وهي مادة سياسية خصبة، يستنبطها
الراكنون إلى
الذين ظلموا من سورة القصص: (إنّ خير من استأجرتَ القويُّ
الأمين) ـ
القصص 26 ـ وأيضا بحجة أن سيدنا يوسف عليه السلام، وهو
النبي التّقي، كان
على خزائن الأرض في حكومة العزيز الكافرة: (إنّك اليومَ
لدينا مَكينٌ أمين) ـ
يوسف 54 ـ فلماذا لا نستفيد نحن، خاصة مما هو بعيد عن التّشريع
والقضاء
بغير ما أنزل الله..؟ كذا يستنتجون.
والحقيقة، كما يعلم الدكتور، أنّ شريعة مَن قبلنا ليست شريعة
لنا إذا تعارضت مع
التي بين يدينا، أو نُسخت بما في أيدينا من شريعة نبيّنا
محمد صلى الله عليه وآله
وسلم. وأسأل الشيخ الدكتور: هل كان نبي الله يوسف عليه
السلام ماموراً ببناء
أمّة تجاهد في سبيل الله، وتقيم دولة إسلامية على نحو ما
أُمر به نبيّنا محمد صلى
الله عليه وآله وسلم؟ فإن كان الجواب نعم، فالبيّنة.. وإن
كان بالنّفي، فقد علمت أن
استدلالك بالمسألة استدلال في غير محلّه. هذا على مستوى
الإستدلال المجرّد..
أما على مستوى الوصف، من حيث القوّة والأمانة، فالدكتور
القرضاوي يعلم جيداً
مدى غيابه عن الديمقراطيين، وخصوصاً في ما يخص الأمانة
بمعانيها الشرعية.
ومَن ضيّع الدين، فهو لما سواه أضيع.
تبقى الإشارة إلى خاتمة فقرته: "فقد كتم الشهادة أحوج ما
تكون الأمة إليها" فعن
أي أمّة يتحدث الشيخ؟ عن المصرية، أم الليبية، أم السورية،
عن هذه، أم عن
تلك؟ إنّ الأمة اليوم صارت أمماً.. عشرات الأمم "الإسلامية"،
ولا إسلام، أو
يكاد.. فهلاّ التزمنا بالدقّة العلمية في كلامنا، ليكون
ذلك أجدى وأهدى؟ أم نريد
وضع قوالب صالحة لكل “أمة” على حدة، كما لو كنّا نخاطب
الأمة الإسلامية
الواحدة؟ لا، إننا ما لم نكن واضحين، دقيقين في بحوثنا
وتحليلاتنا، فلن تنجح
دعوتنا، ولن نجنح إلاّ إلى مزيد من الغموض والتّيه والضياع.
لمن الحاكمية؟
ومن جملة ما جاء في دفاع الشيخ عن الديمقراطية
قوله: "فليس يلزم من المناداة
بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر.. فأكثر الذين ينادون
بالديمقراطية، لا يخطر
هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه، هو رفض الدكتاتورية
المتسلّطة... أن يختار الشعب حكامه كما يريد وأن يحاسبهم
على تصرفاتهم وأن
يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة"
الجملة الأولى لا يتفوّه بها إلاّ مَن يجهل حقيقة جوهر الديمقراطية،
بل وقشرتها
أيضا.. وليت شعري عن أي ديمقراطية يتكلم الشيخ، تلك التي
لا يلزم منها رفض
حاكمية الله للبشر.. أهي الديمقراطية الغربية على اختلاف
أنواعها، وقاسمها
المشترك: الحاكمية لغير الله؟ أم هي الديمقراطية في البلاد
الإسلامية، وقاسمها
المشترك، الحاكمية لغير الله أيضا، مع التزوير والتغيير
وشراء الذّمم
والضمائر...؟ فهلاّ طرح الشيخ نموذجا واحدا من الواقع يكون
مرجع البحث
ومادّة التقصّي؟
قراءة الخواطر
أما الجملة الثانية من الفقرة: "فأكثر الذين
ينادون.." فما عرفنا الشيخ أبدا خبيرا في
عملية استطلاع الرأي على النمط الغربي.. والعملية منعدمة
أصلا في العالم
العربي والإسلامي. وأما قراءة ما يخطر بالبال وغيرها من
أعمال القلوب، فأنّى
لنا جميعا ذلك؟
والعجيب أنّ الناس، كما ذكر، يعرفون الدكتاتورية المتسلّطة
ولا يعرفون التي
يبغونها بديلا ويلهثون خلفها.. عجباً، يلهثون ويتهارشون
على المجهول، ويسمّونه
بغير إسمه.
وأسأل الدكتور بالمناسبة: منذ متى والشعوب "المسلمة" بما
فيهم كثير من
"الإسلاميين"، ينادون بالديمقراطية؟ فهل أدركوها؟ وهل قضوا
على الإستبداد
والدكتاتورية؟
أنا أقول: أدركوها. ولكنهم لم يقضوا على الإستبداد والتسلّط،
لأنها عين الإستبداد
والتسلّط.. استبداد بميزة خاصة، نتائجها متأرجحة دائما
بين 99 % و100%.
كلما كانت هناك إنتخابات رئاسية ذات نتائج أبدية.
فياأيها الشيخ الجليل! إنك لتعلم، والله، أنّ الطريق السويّ
لقطع الطريق المعوّج
ليس غير الإسلام، تصفية وتربية وإعداداً وجهاداً، وهي كلمات
تلخص إلى حد
بعيد سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا نقف
عند الأولتين منها
(التصفية والتربية) ونقطة النهاية.
إنّ السنّة تعلمنا كل شيء، من الأكل والشرب والنوم، إلى
الحكم والقضاء، إلى
السلم والحرب.. إلى كيف نقيم خير أمة أخرجت للناس.
لذا نقول ونحن واثقون من صحة ما نقول: لا تُقاوم الدكتاتورية
والتّسلّط إلاّ
بالإسلام، والإسلام فقط.. وإلاّ في أي شيء عجز الإسلام
حتى صحّ الإستنجاد
بالديمقراطية؟ تلك التي يجب أن يُقاومها المسلمون أشد ما
تكون المقاومة..
ونأتي إلى قوله في الفقرة السالفة: "أن يختار الشعب حكّامه
كما يريد... إلخ" أي
شعب يقصد الشيخ؟ الشعوب كثيرة جداً. كما أنّ الشعب ليس
بالضرورة أن يكون
أهل قطر معين، حسب المتعارف عليه في هذه الأيام. الشعب
في لغة العرب، هو
القبيلة العظيمة في أحد معانيها. وبناءً عليه، ليس مفهوم
الشعب في حقيقته ينطبق
على قولنا مثلاً: الشعب المصري، الشعب العراقي... إلخ.
لأننا قد نجد في قطر
واحد من هذه الأقطار (الأقطار حسب تقسيم الإستعمار) شعوباً
متعددة، ذات ألسنة
مختلفة وديانات مختلفة أيضا. كما قد نجد شعبا واحدا تتقاسمه
أقطار متعددة،
كالشعب الكردي مثلا. وإذا جاز لكل شعب مسلم أن يختار حاكمه
كما يريد، فلماذا
لا يجوز نفس الشيء لكل قبيلة على حدة، ليصبح حكام المسلمين
بالمئات بدل
العشرات.؟
إننا عندما نخرج عن مفهوم الشرع للأمة، ونتكلم بغير لغة
العلم، مقلدين الغرب،
متأثرين بالأمر الواقع، نَضِلّ ونُضِلّ. فلْنعُد إلى ديننا،
ولغة قرآننا (إنّ هذه أُمّتُكم
اُمّة واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون) ـ الأنبياء 92 ـ وهي
الأمة القائمة على الدين
وحده، لا يضرها أن تنصهر في بوتقتها وتحت رايتها شعوب وقبائل،
مهما اختلفت
لغاتهم وعاداتهم وطبائعهم، كما لا يضرها أيضا تفرّق المؤمنين
بها في أرض الله
الواسعة.
هذا هو الإطار الصحيح الذي يجب أن يكون مناط البحث والتحليل،
لا أن نقبل
بواقع مخزٍ سخيف، ثم نسعى لترويض الشرع الحنيف، ليّا لأعناق
النصوص لعلّها
تطاوع الأهواء..
إنّ الدكتور يعلم جيدا أنّ الحاكم في الإسلام، لا ينصّب
حسب ما تنصّ عليه
مبادئ الديمقراطية وأخلاقها، ولا يُعزل حسب آليات الديمقراطية
ولعبتها، إنما
الأمر جد مختلف، ولا وجه للشبه بينهما البتة.. ناهيك عن
رفض الإسلام لتعدد
الحكام في زمان واحد، لما في ذلك من تمزيق وتقزيم للمسلمين..
وفي الحديث
عن أبي سعيد الخُدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم: "إذا بُويِعَ
لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" صحيح مسلم
ثم قال (الشيخ): "وان يرفض أوامرهم (يعني الحكام) إذا خالفوا
دستور الأمة"
ومرة أخرى، نستطيع أن نتساءل: أي أمة يعني الشيخ، فالأمة
الإسلامية، صارت
أمما، ولكل "أمة" فرعية دستور قابل للتجديد، مطاوع للتعديل..
دساتير ودساتير،
وكلها في واد، والإسلام في واد آخر.. فهل يضبط الشيخ لغته
ومصطلحاته ضبطا
شرعيا مطهّرا من رواسب وآثار الأفكار الغازية؟
وقد يقول الدكتور، أو أحد ممن ينتصرون له بغير الحق، إن
الدستور الذي يقصد
هو الكتاب والسنّة، والأمة التي يقصدها هي أمة الإسلام..
وأقول لا، لأن اللغة
والمصطلحات، مع الواقع والخلفيات، والإطار العام الموضوع
للبحث منذ البداية،
كل ذلك لا يصب في البحث الشرعي الذي يسمي الأشياء بأسمائها،
ويضع الأمور
في مواضعها، دون الحاجة إلى اللجوء إلى كلمات تحتمل وتحتمل...
فإنّ ذاك
رأس التلبيس، وأسّ التّدليس.. أعاذنا الله جميعا من سيئة
التميع.. ومهلك التنطع.
بل هناك ما يفيد قطعا أنه لا يريد بالدستور ما أنزل الله،
إنما يريد ما شرعه
العباد.. وهو قوله: "إنّ الدستور ينصّ ـ مع التمسك بالديمقراطية
ـ على أنّ دين
الدولة هو الإسلام، وأنّ الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين"
ولست أدري أهو دفاع عن الدستور المصري، أم عن كل الدساتير
في كل البلاد
الإسلامية، إذ كلها لا تتنكّر صراحة لإسلامية الدولة، حتى
ولو لم يكن في الدولة
إسلام البتّة.
وعلى كل حال، فهي جملة فيها الشيء ونقيضه: النص على أنّ
دين الدولة هو
الإسلام ـ ولست أدري عن أي دولة يتحدث بالتحديد ـ مع التمسك
بالديمقراطية،
وعلى أسوء حال.
ولنتجاوز جدلا هذا التناقض البليغ، ولنسأل الشيخ عن تلك
القوانين الصادرة في
مصر وغيرها عن الشريعة الإسلامية، أهي قوانين الربا المعمول
بها بشكل عام
ومنتظم في كل المؤسسات المالية والمصرفية والتجارية والإستثمارية
في الداخل
والخارج؟ أم قوانين الجنايات التي لا تعرف حدّا واحدا من
حدود الله تعالى، ولا
قصاصا واحدا مما كتبه الله سبحانه؟ أهي قوانين الجندية
والتجنيد المنظمة لأولوية
الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية والخراج على أهل الكتاب
وأشباههم، كما
أمر الله؟ أم قوانين التجارة والصناعة التي تمنع تصنيع
ما حرم الله جل جلاله
والمتاجرة فيه؟ وغيرها من قوانين الصحافة والإعلام والإدارة
والمؤسسات، وما
إلى ذلك وفق المنظور الشرعي؟ وإني لا أتحدّث في دائرة الإجتهاد،
بل في نطاق
كليات الدين وثوابته.. أتُرى هذه القوانين الكفرية صادرة
عن الكتاب والسنّة؟ أم
على الله تفترون؟
فيا أيها الشيخ! ها أنت تجادل عن الدساتير والقوانين الوضعية
الوضيعة وعن
أهلها من القوميين والبعثيين والجمهوريين.. وها أنت خصيم
لهم في الدنيا وهم
خائنون لدين الله تعالى، فمن يجادل عنهم جميعا يوم القيامة؟
(هـأنتم هؤلاءِ جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمَن يجادلُ
اللهَ عنهم يوم القيامة أم مَن
يكونُ عليهم وكيلا) ـ النساء 109 ـ
(ولا تكن للخائنين خَصيما) ـ النساء 105 ـ
ولو تأمل الشيخ قليلا في عبارة كتبها بخط يده، لأدرك أنه
يهدم الديمقراطية هدما
تامّا، وهي قوله: "ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة:
إنّ كل قانون
أو نظام يخالف قطعيات الشرع فهو باطل"
قلت: والديمقراطية تخالف قطعيات الشرع، وأصوله وفروعه..
فهي باطلة.
الديمقراطية شكل للحكم، ولكن...
قال الشيخ القرضاوي في فقرة أخرى: "المسلم
الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما
يدعو إليها باعتبارها شكلا للحكم" أقول: إنّ المسلم لا
يدعو إلى غير الإسلام،
والديمقراطية غير الإسلام.. واسألوا أي ديمقراطي غربي،
نصراني أو يهودي أو
غيرهما، فسيؤكدون لكم أنهم لا يقصدون حرفا واحدا من الإسلام،
وهم يتكلمون
بالديمقراطية أو يتعاملون بها، على توالي الأيام.
ثم متى ترك لنا ديننا اختيار أشكال الحكم من أعدائنا؟ أوليس
الإسلام نظام حكم
ومنهاج حياة؟ أين نظام الخلافة، ونظام الشورى، ونظام البيعة،
ونظام الحسبة،
ونظام الزكاة، ونظام الجهاد...؟ وكل ديننا نظام في نظام
في نظام.. أهكذا يراد لنا
في آخر زمامننا أن نمارس وظيفة السؤال والتّسوّل من أجل
قيام دولتنا؟
إنّ الذين يدعون إلى الديمقراطية من المسلمين، إن صحّ أنهم
مسلمون، كان عليهم
أن يوفّروا جهودهم لتوظيفها في الدعوة إلى الله، لا إلى
نِحل أعداء الله.. وعَلامَ
تدعون إلى الديمقراطية؟ فهي موجودة في كل مكان. ولا يقولنّ
قائل، إنّ الموجود
هو مسخ للديمقراطية، وتشويه لها، ولا سيما في البلاد العربية
والإسلامية، ذلك
لأن الديمقراطية هي نسيج المسخ والتشويه، ولو كانت في قلب
البيت الأبيض..
فهي مسخ لإنسانية الإنسان، وتشويه لكرامته وشرفه.. وإلا
دُلّوني على مجتمع
ديمقراطي واحد، لا تُحمى فيه الدّعارة والخمر والربا وغيرها..
وهو الفساد الكبير
لعِرض الإنسان وعقله وماله.. فضلا عن دينه وعقيدته.
وأظن أنّ الدكتور غابت عنه تماماً كل أسس الديمقراطية الجوهرية،
حتى إنه لم
يعد يميز نهائيا بينها وبين الإسلام، ولا يرى أي تناقض
بينهما حيث قال: "لا يلزم
إذن من الدعوة الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم
الله، إذ لا تناقض
بينهما"
يقول ذلك، مع أن التناقض وحده هو الذي يطبع كل مقارنة بينهما..
وأنهما لا
يلتقيان إطلاقا، لا في أصولهما وجوهرهما، ولا في فروعهما
ووسائلهما.
ولقد تحدث الشيخ عما يسمّيه الفقهاء بالمصالح المرسلة،
وضرب لها أمثلة: قوانين
السير والمرور، وتنظيم بناء المحلات التجارية.. ذكر ذلك
عقب تنبيهه على أنّ
الثوابت الدينية لا تدخل في التصويت والإستشارة، إنما ذلك
خاص بالمسائل
الإجتهادية، كتلك التي ضرب لها مثالا.
فهل هذا هو واقع المسلمين، أيها الناس؟ أعني، هل الإنتخابات
المتعارف عليها
شرقا وغربا، لا تُجرى إلا من أجل ترجيح شعبي لمسألة اجتهادية
لا نص فيها؟
هذا إن صح الترجيح من غير العلماء.. فكيف وهو يحرُم؟
أما تحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا..
فهذا الكلام مكانه ليس
بيننا، نحن المسلمين. والدكتور الثرضاوي يعلم جيدا الفرق
الكبير بين
“الجمهورية”، دولة الديمقراطية والتسلط والإستبداد، وبين
الخلافة الإسلامية، دولة
الإيمان والمان، والشريعة والإحسان، والإعداد والجهاد.
وما كان للآراء أن تختلف
في هذه القضايا ابتداءً، إذ الإختلاف من طبيعة الإجتهاد،
وإنه لا اجتهاد في مورد
النص.
مدح بليغ للديمقراطية:
وبعد قول طويل استعرض فيه الشيخ ديمقراطية
البلاد الإسلامية، أي ديمقراطية
القهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ديمقراطية المعاداة
للإسلام، وفتح
السجون، والسياط التي تلهب، وأحكام الطوارئ التي تلاحق
كل ذي رأي حرّ..
إلى آخر كلامه هو، والذي يعبر فيه حقيقة عن حقيقة الديمقراطية
التي يطالب بها
هو صراحة حيث قال: “وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها
الوسيلة الميسورة
والمنضبطة لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة.. دون أن يُزج
بنا في ظلمات
المعتقلات، أو تُنصب لنا أعواد المشانق”
إنه كلام، لو أراد الكفار أن يمدحوا ديمقراطيتهم، للما وجدوا
أجمل ولا أكمل منه..
فلتهنأ عيون الكافرين بما حقّقوه فينا من روح الإنهزام
والتشبه بهم، والمتابعة لهم،
بل والمتايعة أحيانا، ولا أقول فقط، المتابعة.
فيا حسرة على تلك الروح الكريمة القديمة التي كان الشيخ
الدكتور القرضاوي
ينفخها في الناس، بكتاباته وأشعاره الرائعة الأصيلة، وخطبه
ومحاضراته الجليلة،
الذائعة الصيت.. فهل يعود الشيخ إلى ما عوّدنا عليه من
أصالة وتأصيل،
واعتصام بالتنزيل، أم نقول: (إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون)
ـ البقرة 156 ـ اللّهم
أْجُرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها؟
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أنِ
الحمد لله رب العالمين. وكتبه محمد بن محمد
الفزازي ـ طنجة ـ الثلاثاء 14 شعبان
1417 هـ
عودة إلى محتويات صفحة
التوحيد
|