عظات
القديس مقاريوس الكبير

 

العظة السادسة والعشرون
كرامة النفس ـ تجارب الشر والانتصار

كرامة وقيمة وقوة وفاعلية النفس الخالدة، وكيف تُجرب بواسطة الشيطان، وكيف تحصل على الحرية من التجارب. وتحتوى العظة أيضًا على بعض أسئلة مملوءة بتعاليم هامة.

كرامة النفس البشرية :

1ـ أيها الحبيب، لا تستخف بالطبيعة العقلية للنفس البشرية. فالنفس الخالدة هي مثل إناء غالى الثمن، فانظر مقدار عظمة السموات والأرض، ومع ذلك فإن الله لم يُسرّ بها بل وجد مسرّته فيك أنت فاعتبر كرامتك وسموك، حيث إن الرب قد أتى لأجل حمايتك وخلاصك بنفسه وليس بواسطة ملائكة وذلك لكى يناديك ويدركك أنت، أنت الذي قد ضعت وضللت، أنت الذي جُرحت، وذلك لكى يعيدك إلى حالة وشكل آدم النقي الذي خُلق عليه أولاً. لأن الإنسان كان سيدًا على السموات والأرض، وقادرًا أن يميّز الأهواء، وكان غريبًا تمامًا عن الشياطين، وجُرح ومات. وأظلم الشيطان عقله. فهو هكذا من ناحية معينة، ومن ناحية أخرى هو لا يزال يحيا ويميز ويملك الإرادة.

استئصال الخطية :

          2ـ سؤال: أليس صحيحًا أن الشهوة الطبيعية تُستأصل مع الخطية بحلول الروح القدس؟

          الجواب: فقد سبق أن قلت إن الخطية تُستأصل والإنسان يسترجع ثانية شكل آدم الأصلي في طهارته. وفي الحقيقة، فإن الإنسان بقوة الروح والتجديد الروحاني لا يصل فقط إلى قياس آدم الأول، بل يصير في حالة أعظم منه لأنه يصير شريكًا للطبيعة الإلهية.

حدود حرب الشيطان:

          3ـ سؤال: هل الشيطان يحارب ضدنا كما يشاء أم أن له حرية محدودة في محاربتنا ؟

          الجواب: إن الشيطان يهاجم ليس المسيحيين فقط بل وعابدي الأصنام والعالم كله، فلو كان مسموحًا له أن يحارب كما يشاء لكان أهلك جميع البشر وحطّم كل شيء. ولماذا هكذا؟ لأن هذه هي غايته وشهوته. وكما أن الخزّاف يضع أوعيته في النار ويحمّى الفرن تدريجيًا وليس بما يفوق الحد اللازم لئلا تنشق الأواني، وأيضا ليس بأقل من الحد اللازم لئلا تصير الأوانى نيئة وغير نافعة للاستعمال، وكما أن الصائغ أو الجواهرجي يسلّط النار بقدر محسوب، لأنه إذا زادت النار عن اللازم يسيل الذهب والفضة ويصيران كالماء ويتلفان، وإذا كان عقل الإنسان يعرف كيف يقيس الأحمال المناسبة لدابته سواء كان جملاً أو غيره من الحيوانات بحسب قدرة كل حيوان على الحمل، فكم بالحري جدًا يفعل الله الذي يعرف قدر احتمال الناس لا يسمح للقوة المعادية أن تحارب كل إنسان إلاّ بقدر احتماله وسعته.

          4 ـ كما أن الأرض رغم أنها واحدة، ومع ذلك فهناك أجزاء فيها صخرية وأجزاء أخرى سهلة وخصبة، وأجزاء مناسبة لزراعة الكروم وغيرها لزراعة القمح والشعير، هكذا أيضًا حقول القلوب البشرية والمشيئات تختلف من واحد إلى آخر. وهكذا أيضًا مواهب النعمة التي من فوق تُوزع بتنوع واختلاف. فلواحد تُعطى موهبة الكرازة بالكلمة، ولآخر موهبة التمييز ولثالث مواهب الشفاء (1كو 9:12). فإن الله يعرف طاقة كل إنسان في تحقيق وكالته، وهكذا أيضًا على حسب ذلك يوزع مواهبه المتنوعة. وبطريقة مشابهة أيضًا فيما يخص الحرب الداخلية يسمح لقوة العدو بمحاربة كل واحد على قدر طاقته في تقبل ومواجهة حرب الشرير.

 

النعمة والطبيعة الشخصية :

          5 ـ سؤال: حينما ينال إنسان القوة الإلهية ويتغير بها نوعًا ما، هل يظل في الطبيعة التي كانت له قبلاً؟

 

 

          الجواب: لكى ما تُمتحن الإرادة، بعد نوال النعمة لكى يظهر ميلها وموافقتها، فإن الطبيعة تظل كما كانت قبلاً: فالذي كان شديدًا يبقى على شدته، والرقيق على رقته. ولكن يحدث أحيانًا أن إنسانًا غير متعلّم يُولد ثانيةً روحيًا ويتحول إلى إنسان حكيم وتُعلن له الأسرار الخفية، ومع ذلك يظل على طبيعته كإنسان غير متعلم. وآخر قد يكون شديدًا بطبيعته ولكنه يُسلّم نفسه وإرادته لخدمة الله فيقبله الله رغم أن طبيعته تبقى على شدتها، ومع ذلك يُسرّ الله به. وإنسان آخر يكون رقيقًا في عاداته ولطيفًا وصالحًا، ويعطى نفسه لله ويقبله الله ولكن إن لم يثبت في الصلاح فإن الله لا يُسرّ به لأن طبيعة البشر كلها قابلة للتغير إلى الخير أو إلى الشر، وهي قادرة على فعل الشر إذا أرادت ، ولكن إذا أرادت أيضًا فلها القوة ألاّ تتمّم الشر فعلاً.

          6 ـ ومثل الكتابة على الورق، فإنك تكتب شيئًا ربما لم تقصده ولذلك تمحوه ثانيةً. فالورق يتقبل أى نوع من الكتابة، هكذا الإنسان القاسي أو الشديد الذي يعطى ذاته لله فيقبله، فإنه يتحوّل إلى ما هو صالح. لأن الله يقبل الناس من كل الأنواع ومن كل الاتجاهات، لكى يُظهر رحمته. والرسل حينما كانوا يأتون إلى مدينة ويمكثون فيها بعض الوقت فإنهم كانوا يشفون بعضًا من المرضى والبعض الأخر لا يشفون. والرسل من ناحيتهم يرغبون أن يعطوا الحياة لكل الموتى، والشفاء لكل المرضى. لكن لم يكن لهم ما أرادوا: فلم يكن مسموحًا لهم أن يفعلوا ما يشاءون. وبنفس الطريقة حينما أمسك والى الحارث، بولس الرسول فإن النعمة التي كانت مع الرسول كان يمكن لو أرادت أن تجعل الوالي وسور المدينة كلاهما يسقطان، حيث إن بولس كان إنسانًا مؤيدًا بالروح القدس، ولكن الرسول تدّلى في زنبيل (2كو32:11). فأين كانت إذن القوة الإلهية المصاحبة له؟.. إن هذه الأشياء حدثت بتدبير العناية، وفي بعض الأمور كان الرسل يصنعون الآيات والعجائب، وفي حالات أخرى كانوا بلا قوة لكى يظهر الفرق بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون، ولكي تُمتحن وتظهر حرية الإرادة، وهل سيعثر البعض عندما يرون أنهم (أى الرسل) ضعفاء. فلو كان الرسل قد فعلوا كل ما شاءوا في كل شيء لكانوا قد أتوا بالناس إلى خدمة الله بالقوة الجبرية، ولا يكون الأمر حينئذ مسألة إيمان أو عدم إيمان. المسيحية هي " حجر صدمة وصخرة عثرة" (رو33:9).

          7 ـ وأيضًا ما كُتب عن أيوب ليس بدون معنى، إذ يتضح من الكتاب أن الشيطان طلبه وسعى إليه. فإن الشيطان لا يستطيع أن يعمل شيئًا من ذاته بدون إذن من الله. وماذا يقول الشيطان للرب، "سلمه ليدي فإنه في وجهك سيجدف عليك" (أيوب12:1 سبعينية). ولا يزال أيوب كما هو، وهكذا الله أيضًا وكذلك الشيطان. فبقدر ذلك يطلبه الشيطان ويقول للرب "إنما هو يخدمك لأنك تساعده وتحميه وتعينه، ولكن أبسط يدك الآن وسلمه لي فإنه في وجهك يجدف عليك". وباختصار، بسبب أن الشخص يكون حاصلاً على العزاء بالنعمة، فإن النعمة تنسحب قليلاً حتى يمكن أن يُسلم للتجارب، ويأتي الشيطان ويحضر معه ألاف من الشرور كتجارب للإنسان مثل: اليأس والارتداد والأفكار الرديئة ليعذب بها النفس لكى يضعفها ويفصلها عن الرجاء في الرب.

          8 ـ ولكن الشخص الحكيم لا ييأس أبدًا في وسط التجارب والشرور، بل يتعلق بمن هو مُمسك به، ومهما أثار الشيطان ضده من حروب فإنه يصبر في وسط التجارب التي لا تُحصى قائلاً " إني ولو مت فلا أطلق الرب وأتركه". وحينئذ فإذا صَبِرَ الإنسان إلى النهاية فإن الرب يحاور الشيطان قائلاً: " انظر كم من الشرور والمصائب جلبت عليه ومع ذلك فلم يُنصت إليك بل هو يخدمني ويتقيني". فحينئذٍ ينغلب الشيطان من الخزي ولا يكون له شيء أكثر ليقوله. وفي حالة أيوب، لو كان الشيطان قد علّم أن أيوب سيظل ثابتًا في وسط التجارب ولن ينهزم لما كان قد طلبه، وذلك ليتحاشى الخزي الذي أصابه. وهكذا الآن أيضًا في حالة أولئك الذين يحتملون الشدائد والتجارب، فإن الشيطان يخزى ويندم لرجوعه خائبًا. والرب يقول له "انظر ها أنا قد أعطيتك الإذن وسمحت لك أن تجربه، فهل استطعت أن تفعل به شيئًا؟ وهل سمع لك في أى شيء؟".

 

الشيطان معرفته محدودة بأفكار الإنسان :

          9ـ سؤال: هل يعرف الشيطان كل أفكار الإنسان ومقاصده ؟

          جواب: إذا كان إنسان يرافق إنسانًا آخر، فإنه يعرف عنه كل ما يختص به. وإن كنت أنت الذي لك من العمر عشرون سنة، تعرف الأمور الخاصة بجارك، أفلا يستطيع الشيطان الذي يحتك بك منذ ولادتك أن يعرف أفكارك؟ فإن عمر الشيطان الآن ستة آلاف سنة. ومع ذلك فنحن لا نقول إنه يعرف ما ينوى أن يفعله الإنسان قبل أن يجربه؟ فالمجرب يبدأ بالتجربة ولكنه لا يعرف إن كان الإنسان سيطيعه أم لا إلى أن يأتي الوقت الذي فيه يُسلّم الإنسان إرادته للشيطان ليستعبده. كما أنني لا أقول إن الشيطان يعرف كل أفكار واختراعات قلب الإنسان. فكما أن الشجرة لها فروع وأغصان كثيرة، هكذا النفس أيضًا لها فروع كثيرة من الأفكار، والشيطان يعرف بعض هذه الفروع، ولكن هناك أفكار ومقاصد أخرى لا يدركها الشيطان ولا يمسكها.

 

الالتجاء إلى الله بالإيمان والمحبة يهزم الشيطان :

          10ـ فقد يحدث في أمر معيّن أن جانب الشر يكون أقوى في الأفكار التي داخلنا ولكن في أمر آخر ينتصر فكر الإنسان ويكون أقوى من الشر إذ ينال عونًا وفداءً من الله فيقاوم الشر ويمقته. إذن فإنه ينغلب في أمر وفي أمر آخر ينتصر. فإنه أحيانًا يأتي إلى الله بحرارة، والشيطان يعرف هذا ويرى ذلك الإنسان ينفر منه ويقاومه، وأنه ـ أى الشيطان ـ عاجز أمامه. وما السبب في ذلك؟ السبب أن الإنسان له الإرادة والرغبة أن يصرخ إلى الله، وتوجد عنده الثمار الطبيعية لمحبة الله، ثمار الإيمان بالله، وطلب المجيء إليه.

 

 

          ففي أمور العالم الخارجية التي حولنا، فإن الفلاح يُفلّح الأرض، ولكنه بالرغم من تفليحه لها، فإنه يحتاج إلى وابل من الأمطار من فوق. فإن لم يأت المطر من فوق فلا ينتفع الفلاح شيئًا من تفليحه الأرض. هكذا الأمر أيضًا في العالم الروحي. فإن هناك عاملان يؤخذان في الاعتبار. فأولاً، من الضروري أن يُفلّح الإنسان أرض قلبه بحريته واختياره وتعبه ـ فإن الله يريد أن يبذل الإنسان كل جهده ويتعب ولا يتكاسل ـ ولكن إن لم تظهر السحب السماوية وأمطار النعمة من فوق فإن الفلاح الروحاني لا ينتفع شيئًا من جهده وتعبه.

 

علامة المسيحية :

          11ـ هذه هي علامة المسيحية إنه مهما فعل الإنسان وتعب ومهما عمل أعمال برّ، فإنه يشعر أنه لم يفعل شيئًا. وحينما يصوم فإنه يشعر في نفسه كأنه لم يَصم. وحينما يصلى يقول في نفسه "هذه ليست صلاة". وعندما يثابر في الصلاة يشعر أنه لم يُثابر بعد بل يقول لنفسه "إنني فقط بدأت أن أمارس المثابرة والتعب"، وحتى إذا كان بارًا أمام الله فينبغى أن يقول "أنا لست بارًا، أنا لست عاملاً، ولكنى فقط ابتدئ في كل يوم".

          وينبغي أن يكون عنده الرجاء والفرح كل يوم وانتظار الملكوت التي والفداء الكامل، وان يقول " إن لم أكن قد افتُديت (تحررت) اليوم فإنني سأُفتدى غدًا". ومثل الإنسان الذي يزرع كرمًا، فإن عنده فرح ورجاء في نفسه قبل أن يبدأ الزرع، إذ هو يتصور الكرم في عقله ويحسب الربح الناتج منه أيضًا، قبل أن يثمر الكرم، وهكذا فإنه يبتدئ بالتعب والجهد ـ لأن الرجاء والانتظار يجعلانه يجتهد بغيرة وحماس وينفق على الكرم لفترة طويلة من ماله.

وهكذا أيضًا الإنسان الذي يبنى بيتًا أو يزرع حقلاً فإنه يتكلف كثيرًا في البداية، ولكنه يفعل ذلك على رجاء الربح الذي سيحصل عليه.

          وبنفس الطريقة في هذا الأمر الذي أمامنا. فإن لم يضع الإنسان أمام عينيه الفرح والرجاء قائلاً في نفسه: " إنني سأحصل على الفداء الكامل (التحرر) والحياة"، فإنه لا يستطيع أن يحتمل الشدائد أو الأثقال بصبر ولا يستطيع السير في الطريق الضيق. فإن وجود الرجاء والفرح في قلبه هما اللذان يجعلانه يتعب ويحتمل الشدائد وثقل السير في الطريق الضيق.

          12 ـ ولكن كما أنه ليس من السهل خروج الميسم (سيخ حديد) من النار، هكذا فليس من السهل أن تهرب النفس من نار الموت إلاّ بتعب كثير. فكثيرًا ما يوحى الشيطان بأفكار مضلّة تحت ستار الأفكار الصالحة مثل " بهذه الطريقة يمكنك أن ترضى الله" فهو يوحى إلى الشخص ويقوده بمكر إلى أفكار خادعة ولطيفة حسب مظهرها، وعندما لا يعرف الإنسان كيف يكتشف أو يميّز أنه مخدوع. فإنه يسقط في " فخ وهلاك إبليس" (1تى9:6، 7:3).

 

السلاح الفتاك :

          إن أشد أسلحة المجاهد المسيحي فتكًا هي هذه: أن يحارب ضد الشيطان في أعماق قلبه، وأن يبغض نفسه، وينكر نفسه، وأن يغضب منها ويوبّخها، ويقاوم الشهوات التي تتحرك في داخله ويعارك مع أفكاره ويحارب ضد ذاته.

          13 ـ فإذا كنت تحفظ جسدًا خارجيًا من الفساد والدنس ولكنك ترتكب الزنا والفسق في أفكارك فإنك زانِ أمام الله ولا تنفعك عذراوية جسدك شيئًا. فإن كانت هناك امرأة شابة يحاول شاب أن يغريها ويخدعها حتى يفسدها بحيلته ومكره، فإنها بعد ذلك تصير مكروهة من زوجها لأنها صارت زانية. هكذا أيضًا النفس الروحانية فإنها إذا عقدت شركة مع الحيّة المختفية في ثنايا القلب الداخلية، فإنها ترتكب الزنا مع الروح الخبيث ضد الله كما هو مكتوب " إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنا بها في قلبه" (مت28:5). فهناك زنى بالجسد، وهناك زنى آخر للنفس حينما تقيم شركة مع الشيطان. فالنفس إما أن تكون شريكة وقريبة للشياطين، أو لله والملائكة، فإن كانت تزنى مع الشيطان، فهي لا تليق بالعريس السماوى.

 

الحرب مستمرة ولكن الرب يحفظ من الذي :

          14ـ سؤال: هل الشيطان يهدأ أحيانًا ويكون الإنسان حُرًا من الحروب؟ أم أن الحرب لا تكف عنه مادام حيًا في الجسد؟

          جواب: إن الشيطان لا يهدأ أو يكف عن الحرب. ومادام الإنسان يحيا في هذا العالم ويلبس الجسد فهو مُعرّض للحرب. ولكن حين    " تنطفئ سهام الشرير الملتهبة"(أف16:6) في ضرر يصيب الإنسان إذا أتى الشيطان بإيحاءاته؟ فالشخص الذي يكون صديقًا للملك، وتُرفع شكوى ضده من عدوه، فحيث إن الملك صديق له ويتمتع بفضل وإنعامات الملك، ويقدم له الملك المساندة والعون، فإنه لا يُصاب بأي ضرر. وحينما ينجح أى شخص في أن يعبر بكل الرتب والدرجات ويصير صديقًا للملك ، فلا يستطيع أحد أن يلحق به ضررًا. وفي هذا العالم المادي توجد بعض المدن التي تحصل على هبات وإنعامات من الإمبراطور. فحتى إذا قامت هذه المدن بالصرف على بعض الخدمات فإنها لن تخسر كثيرًا، حيث إنها تحصل على خيرات وافرة من الإمبراطور. هكذا المسيحيون أيضًا، فحتى إذا كان العدو يحارب ضدهم فإنهم يحتمون في الله كحصنهم وقوتهم، وقد لبسوا القوة والراحة من الأعالي، ولا يبالون بالحرب التي تقوم ضدهم.

          15 ـ وكما أن الرب لبس الجسد متخلّيًا عن كل رئاسة وقوة، كذلك المسيحيون يلبسون الروح القدس ويصيرون في سلام. فحتى إذا أتت الحرب من الخارج وبدأ الشيطان هجومه، فإنهم يتقوون داخليًا بقوة الرب ولا يقلقون من الشيطان.

          فالشيطان جرّب الرب في البرية أربعين يومًا ولم يصبه بأي ضرر باقترابه من جسده أو من الداخل إذ كان هو الله. هكذا المسيحيون، رغم أنهم يُجرّبون من الخارج فإنهم من الداخل مملؤون بالله ولا يصيبهم أى أذى. ولكن من يصل إلى هذه المقاييس، فإنه يكون قد وصل إلى محبة المسيح الكاملة، وإلى ملء اللاهوت. وأما من لم يكن هكذا فإنه لا يزال يعانى من الحرب في داخله. فإنه في ساعة معينة يبتهج ويفرح في الصلاة ولكنه في ساعة أخرى يكون في شدة وفي حرب. وهذه هي إرادة الرب. فلأن مثل هذا الشخص لا يزال طفلاً، فإن الرب يدرّبه في الحروب، ومن داخله تنبع كلاً من أفكار النور والظلمة، والسلام والشدة، ومثل هؤلاء الأشخاص يصلون في سلام في بعض الأوقات وفي أوقات أخرى يكونون في ضيق وقلق.

          16ـ ألاّ تسمع ما يقوله الرسول بولس؟ " إن كان لي كل المواهب، وإن سلّمت جسدي حتى احترق، وإن كنت أتكلم بألسنة الملائكة، وليس لى محبة فلست شيئًا" (1كو1:13ـ3). فهذه المواهب هي فقط لأجل حثنا وتحريضنا. وأولئك الذين يكتفون بها فإنهم لا يزالون أطفالاً رغم أنهم في النور.

          فكثيرون من الأخوة قد وصلوا إلى هذه الدرجات وحصلوا على مواهب الشفاء، والإعلانات والنبوة ، ولكن لأنهم لم يصلوا إلى المحبة الكاملة التي هي " رباط الكمال" (كو18:3) فإن الحرب تثور ضدهم، ولأنهم لا يحترسون فإنهم يسقطون. ولكن الشخص الذي يصل إلى المحبة الكاملة فإنه يُحاصر بالنعمة ويصير أسيرًا لها. أما الذي يقترب قليلاً من هذه الدرجة ـ درجة المحبة الكاملة ـ ولكنه لا يُربط بالحب تمامًا ويُقيّد به، فمثل هذا الشخص لا يزال مُعرّضًا للخوف والحروب واحتمال السقوط، وإذا لم يحترس لنفسه فإن الشيطان يلقيه صريعًا على الأرض.

 

أسباب السقوط :

          17 ـ وبهذه الطريقة فإن كثيرين أخطأوا بعد أن حصلوا على النعمة. ظنوا أنهم قد حصلوا على الكمال وقالوا " هذا يكفي، إننا لا نحتاج إلى أكثر من ذلك". ولكن الرب ليس له نهاية، ولا يمكن إدراكه بصورة كاملة ولا يجرؤ المسيحيون أن يقولوا "لقد أدركنا" الله (في13:3)، ولكنهم يظلون يسعون ـ بتواضع ـ ليلاً ونهارًا. وفي أمور هذا العالم نجد أنه ليس هناك نهاية للتعلّم، وأكثر الناس إدراكًا لهذه الحقيقة هو الشخص الذي حصل على درجة كبيرة من العلم والمعرفة. هكذا أيضًا في هذا الأمر الذي نتحدث عنه، فالله لا يمكن قياسه أو إدراكه إلاّ بواسطة أولئك الذين قد بدأوا يتذوقونه، أولئك الذين قبلوه شخصيًا، ويعترفون بضعفهم وعجزهم. فإذا ذهب إنسان له بعض العلم إلى قرية حيث الناس غير متعلّمين فإنهم يعجبون به، لأنهم جهلاء تمامًا فإنهم يمدحونه كأحد العلماء. ولكن إذا ذهب نفس هذا الشخص بعلمه القليل إلى مدينة حيث العلماء والخطباء فإنه لا يجسر أن يظهر بينهم أو يتكلم لأن العلماء الحقيقيون يحسبونه جاهلاً.

 

حالة الذي ينتقل أثناء الحرب الروحية :

          18ـ سؤال: إذا فرضنا أن إنسانًا لا يزال في حرب داخلية ولا يزال يوجد في نفسه كلاً من الخطية والنعمة، فإذا انتقل من هذا العالم إلى أين يذهب، حيث إنه يميل نحو كل من الخطية والنعمة.

          جواب: إنه يذهب إلى حيث يميل قلبه وإلى حيث يوجد حبه. وما عليك إذا أتت عليك الشدة والحرب إلاّ أن تقاومهما وتبغضهما. لأن مجئ الحرب عليك هذا ليس من صنعك. ولكن أن تبغض الحرب فهذا أمر متوقف عليك. وحينئذ إذ ينظر الرب إلى قلبك ويرى أنك تجاهد وأنك تحبه بكل نفسك، فإنه يطرد الموت عن نفسك في وقت قصير جدًا. فإن هذا ليس صعبًا عليه، ثم يأخذك إلى حضنه وإلى نوره. وفي لحظة من الزمان ينتشلك من فم الظلمة وينقلك في الحال إلى ملكوته. فمن اليسير على الله أن يفعل كل الأشياء في لحظة من الزمان، إن كنت فقط تضع حبك فيه. إن الله يريد عمل الإنسان. لأن النفس البشرية خُلقت لتكون لها شركة مع اللاهوت.

          19 ـ وقد سبق أن تكلّمت كثيرًا عن مَثْل الفلاح الذي يتعب ويلقى البذار في الأرض وكيف أنه ينبغي أن ينتظر المطر من فوق. فإن لم تظهر السحب وتهب الرياح فلا فائدة من تعب الفلاح. فإن البذار تبقى عارية. والآن نطبق هذا على الوضع الروحي، فالإنسان الذي يعتمد فقط على مجهوداته الخاصة ولا ينال ما هو خارج عن طبيعته البشرية فإنه لا يستطيع أن يقدّم للرب ثمارًا تليق به. والآن ما هو العمل المطلوب من الإنسان، هل أن يتجرد من العالم ويتركه، وأن يثابر على الصلاة ويسهر، وأن يحب الله والاخوة؟. هذه هي المجالات المطلوب من الإنسان أن يعمل ويثابر فيها. ولكنه إن استند على عمله هذا واكتفي به ولم يترجى أن ينال العطية الأخرى، التي هي رياح الروح القدس، فإن عدم هبوب رياح الروح على نفسه، بسبب عدم ظهور السحب السماوية، وعدم نزول المطر من السماء ليرطب نفسه، فإن الإنسان لا يستطيع أن يقدم للرب الثمار التي تليق به (بالرب).

          20 ـ إنه مكتوب إن الكرام حينما يرى الغصن يأتي بثمر " ينقيه ليأتي بثمر أكثر" (يو2:15) وأما الغصن الذي لا يأتي بثمر فإنه ينزعه ويسلّمه للحريق. وفي الحقيقة يليق بالإنسان إذا صام أو سهر الليالي أو صلى أو عمل أى شيء من الصلاح، أن ينسب كل شيء للرب ويقول: " لو لم أنل القوة من الله لما كنت قد استطعت أن أصوم أو أصلى أو أتجرد من العالم".

          وبهذه الطريقة فإذ يرى الله قصدك، أنك تنسب كل ما تعمله إليه، فإنه ينعم عليك بما هو ليس من ذاتك أو من طبيعتك ـ أى بما هو روحاني وإلهي وسماوي. وما أعنيه هو ثمار الروح والفرح والسعادة.

 

الثمار الطبيعية والثمار الروحانية :

          21ـ سؤال: ولكن حيث إن الثمار الطبيعية هي المحبة والإيمان والصلاة، فما هو الفرق بين هذه الثمار الطبيعية والثمار الروحانية؟

          جواب: الأشياء التي تعملها من نفسك هي حسنة ومقبولة أمام الله، ولكنها ليست نقية تمامًا فمثلاً: أنت تحب الله، ولكنك لا تحبه محبة كاملة. فحينما يأتي الرب إلى داخلك فإنه يعطيك محبة سماوية غير متغيرة. أو أنت تصلى ولكن صلاتك مُصابة بتشتيت الأفكار والقلق. وحينما يأتي الرب إليك فإنه يعطيك الصلاة النقية " بالروح والحق" (يو23:4) وإننا نجد في العالم المادي، أن التربة غالبًا ما تُخرج أشواكًا من نفسها.

          والفلاح يحفر ويصلح الأرض بعناية ويضع فيها البذار، ولكن الأشواك التي لم يزرعها أحد تنبت وتتكاثر. إذ أنه بعد سقوط آدم قيل له  " شوكًا وحسكًا تنبت لك الأرض" (تك18:3). ومرة ثانية يتعب الفلاح في الأرض ويقتلع الأشواك ولكنها مع ذلك لا تزال تتكاثر. وإذا طبقنا هذا تطبيقًا روحيًا نجد أنه منذ سقوط الإنسان صارت تربة القلب البشرى تنبت شوكًا وحسكًا. والإنسان يعمل ويتعب، ومع ذلك تنبت فيها أشواك الخطية، إلى أن يأتي الروح القدس نفسه " ويعين ضعفات الإنسان" (رو26:8). ويزرع الرب الزرع السماوي في تربة القلب ويفلحها. ولكن برغم ذلك، لا يزال الحسك والشوك ينبتان ثانية. ثم يعمل الرب والإنسان معًا في أرض النفس ولا تزال أشواك وأرواح الشر تنبت وتنمو هناك حتى يأتي وقت الصيف والحرارة الشديدة حين تتفاضل وتتزايد النعمة فتجف الأشواك وتذبل من حرارة الشمس.

 

النعمة المتفاضلة تلغى سلطان الخطية :

          22ـ فرغم أن الشر موجود في الطبيعة البشرية (بعد نوال النعمة) ولكنه لم يعد له السلطان أن يسود عليها كما كان سابقًا. فرغم أن الزوان يمكن أن يخنق نبات القمح في بداية نموه ولكن حينما يأتي الصيف وتنضج حبوب القمح فإن الزوان لا يكون له أى ضرر على القمح بعد ذلك. فإذا وضعت ربع مكيال[1] من الزوان في ثلاثين مكيال من القمح النقي واختلطت معها في تأثير يكون للزوان. فإن كمية القمح الكبيرة تطغى بسبب وفرتها على الزوان القليل.

          هكذا أيضًا في مجال النعمة، فحينما تتفاضل عطية الله وتفيض نعمته في الإنسان فيصير غنيًا بالرب، فحتى إذا كانت الخطية حاضرة فيه إلى درجة ما، فإنها لا تستطيع أن تؤذيه ولا يكون لها سلطان أو قوة عليه. وهذا هو الهدف من مجيء الرب وعنايته بالإنسان ـ هو أن يطلق الذين كانوا أسرى للخطية ومستعبدين لها، ويجعلهم أحرارًا وغالبين للموت والخطية. لذلك فلا ينبغي أن يستغرب الاخوة إذا أصابتهم ضيقات وشدائد من الناس فهذا يساعد على تخليصهم وتحريرهم من الخطية.

          23ـ كان موسى وهرون اللذان أُعطيا الكهنوت في العهد القديم، يتحملان شدائد كثيرة، أما قيافا حينما جلس في كرسيهما اضطهد الرب وحكم عليه. والرب سمح بأن يتم هذا احترامًا للكهنوت. وبالمثل فإن الأنبياء قد اضُطهدوا من أمتهم وشعبهم.

          وفي كنيسة العهد الجديد خلف بطرس، موسى، واستأمنه المسيح على كنيسته الجديدة والكهنوت الحقيقي. لأن المعمودية الآن هي معمودية النار والروح القدس. وقد أُعطينا ختانًا في القلب. لأن الروح الإلهي السماوي يسكن في داخل العقل.

          ومع ذلك فحتى أولئك الكاملين ليسوا أحرارًا من القلق تمامًا ماداموا في الجسد، وذلك بسبب حرية إرادتهم، ولذلك يتعرضون للخوف. ولهذا السبب عينه يُسمح لهم بأن يُجربوا. ولكن حينما يصل الإنسان إلى مدينة القديسين، فإنه حينئد يستطيع أن يحيا بدون اضطراب وبدون تجارب. وهناك لا يوجد حزن أو اضطراب أو تعب أو شيخوخة أو شيطان أو حرب، بل هناك راحة وفرح وسلام وخلاص. والرب موجود في وسطهم وهو مخلصهم لأنه هو الذي أطلق المأسورين أحرارًا. وهو يُدعى الطبيب لأنه معطى الدواء السماوي الإلهي. ويشفي آلام وأهواء النفس التي تكون من بعض الوجوه متسلطة على الإنسان. وبالاختصار فإن يسوع هو الملك والله، أما الشيطان فهو طاغية ورئيس الشر.

 

النفس لها الاختيار بين الله والشيطان :

          24 ـ ولنقل ببساطة، إن الله وملائكته يرغبون أن يجعلوا هذا الإنسان واحدًا معهم ليكون معهم في ملكوت الله، والشيطان أيضًا وملائكته يرغبون أن يضموا الإنسان إليهم ليكون معهم. والنفس موجودة في الوسط بين هذين الكيانين ـ والجانب الذي تميل إليه إرادتها فإنها تصير ملكًا له وابنًا له. فكما يحدث من الأب الذي يرسل ابنه إلى أرض غريبة، حيث توجد وحوش كاسرة وحيات سامة في الطريق، فإنه يعطيه أدوية وعلاجات يجهزه بها حتى إذا قابلته الوحوش أو التنانين لتهاجمه فإنه يستطيع أن يستعمل الأدوية ليقتلها.

 

الدواء السماوي والقلب النقي :

          فاجتهدوا أنتم أيضًا في الحصول على الدواء السماوي الذي هو شفي النفس وواقيها، لكى بواسطته تستطيعون أن تقتلوا الوحوش السامة ـ وحوش الأرواح النجسة. فبالحقيقة أنه ليس من السهل الحصول على قلب نقى إلاّ بتعب وجهد كثير. فإنه بذلك يحصل الإنسان على ضمير نقى وقلب طاهر وينتزع منه الشر كله.

          25 ـ فإنه يحدث أحيانًا أن تأتى النعمة إلى إنسان ومع ذلك لا يكون قلبه نقيًا تمامًا. وهذا هو السبب الذي يجعل كثيرين يسقطون، فإنهم يسقطون لأنهم لا يصدقون أنهم بعد نوالهم النعمة لا يزال فيهم دخان وخطية، تستطيع أن تؤثر عليهم.

وأما جميع الأبرار فإنهم أرضوا الرب إذ ساروا في الطريق الضيق الكرب وساروا فيه إلى النهاية.

          فإبراهيم رغم أنه كان غنيًا من جهة الله ومن جهة العالم إلاّ انه اعتبر نفسه " تراب ورماد" (تك27:18) وداود يقول إنه " عار عند البشر ومُحتقر الشعب، أما أنا فدودة لا إنسان" (مز6:22). وبنفس الطريقة، فإن كل الأنبياء والرسل أُهينوا وشُتموا، والرب نفسه، الذي هو الطريق، وهو الإله، حينما جاء إلى العالم لأجلك وليس لأجل نفسه، ليكون مثالاً لك في كل ما هو صالح.

 

انظر إلى المسيح :

انظر، إلى أى تواضع صار ووضع نفسه " آخذًا صورة عبد" (في7:2)، وهو يعطى بنفسه أدوية شافية ويشفي كل المجروحين حينما ظهر من الخارج كأنه واحد من " المجروحين" (إش5،4:53).

          26 ـ ولكن لا تحتقر مجده الإلهي حينما تراه من الخارج متواضعًا كواحد منا. فإنه من أجلنا ظهر هكذا وليس لأجل نفسه، تأمل جيدًا في تلك الساعة حينما كانت الجموع المزدحمة تصرخ " أصلبه أصلبه" (لو21:23) وكيف كان متواضعًا ومسحوقًا أكثر من جميع الناس. وكما يحدث في العالم حولنا فإن أى إنسان مجرم حينما يحكم عليه القاضى فإنه حينئذ يكون مكروهًا ومرذولاً من جميع الناس، هكذا كان الرب في ساعة الصليب وكإنسان محكوم عليه بالموت كان الفريسيون يعاملونه باحتقار شديد. وحينما بصقوا في وجهه ووضعوا إكليل الشوك على رأسه وضربوه في احتقارٍ وهوانٍ قد احتمله؟ لأنه مكتوب " بذلت ظهري للضاربين, وجهي لم أستر من العار والبصاق وخدي من اللطم" (إش6:50). فإن كان الله قد تنازل لاحتمال هذه الإهانات والآلام والتحقير، فكم بالحري أنت الذي بطبيعتك ترابي ومائت. فمهما احتُقرت فإنك لن تفعل أبدًا مثل سيدك ـ فإنه لأجلك وضع نفسه، أفلا تضع أنت ذاتك لأجل نفسك أم تظل متكبرًا ومنتفخًا. لقد أتى ليحمل على نفسه آلامك وأثقالك وخطاياك، وليعطيك راحته، ولكنك ترفض أن تحمل أية متاعب أو أن تتألم لكى تحصل على شفاء لجروحك. والمجد لصبره وطول أناته إلى الأبد آمين.

Back

 

  

 


[1] (ربع)  المكيال المقصود يساوى (1 على 8) من مكيال القمح فتكون نسبة الزوان إلى القمح 240:

 

1