عظات
القديس مقاريوس الكبير

 

العظة التاسعة والعشرون
تدبيرات نعمة الله

إن الله يعمل بتدبيرات نعمته في جنس البشر بطريقتين ، قاصداً أن يحصل في النهاية على ثمرات نعمته.

          1 ـ إن حكمة الله، لا نهاية لها وتفوق الفهم ولذلك فإنها تعمل بتدبيرات النعمة نحو جنس البشر بما يفوق الفهم ويفوق الفحص وذلك بطرق متنوعة لأجل امتحان إرادة الإنسان الحرة، حتى بذلك يظهر أولئك الأشخاص الذين يحبون الله بكل قلبهم والذين يحتملون بصبر كل نوع من الأخطار والأتعاب من أجل الله .

البعض ينالون النعمة ويتقدمون حالاً :

          فالبعض تأتيهم نِعم ومواهب الروح القدس مقدماً وهم يتقدمون حالاً في الإيمان والصلاة، بدون جهد أو عرق أو تعب وهم موجودون في وسط العالم. ويعطيهم الله النعمة هكذا ليس باطلاً ولا في غير وقتها ولا بمجرد المصادفة، ولكنه يعطيها بحكمة تفوق الوصف وتفوق الفهم وذلك لكي يمتحن الاختيار وحرية الإرادة لأولئك الذين قد نالوا نعمة الله بهذه السرعة، وهل شعروا وقدّروا الفائدة وأحسوا بصلاح الله وحلاوته التي أُظهرت حسب قياس النعمة الموهوبة لهم بدون أي مجهودات من جانبهم والتي حُسبوا أهلاً أن ينالوها؟ وفي مقابل هذه النعمة ينبغي أن يُظهروا غيرةً واجتهاداً ويركضون في الميدان ويجاهدون ويحملون ثمر الإرادة والعزم والحب وأن يردوا للرب مقابل المواهب الروحية التي نالوها بأن يعطوا ذواتهم ويسلّموها تماماً لمحبة الرب، وبأن يتمّموا مشيئته وحدها وبأن يتخلوا تماماً عن كل هوى جسدي.

البعض الآخر تتأخر عليهم النعمة :

          2 ـ وهناك آخرون، الذين رغم انهم تركوا هذا العالم وتخلّوا عنه بحسب الإنجيل، ويصرفون وقتهم في صلاة مستمرة وصوم وسهر وبقية الفضائل، فإن الله لا يعطيهم النعمة في الحال ولا الراحة ولا فرح الروح بل يتأنى ويؤخر موهبته لهم. وهذا يفعله الله، ليس عبثاً ولا بدون قصد ولا مصادفة، بل بحكمة تفوق الوصف، لأجل امتحان إرادتهم، لكي يرى إن كانوا قد حسبوا الله أميناً " وحسبوا الذي وعد صادقاً" (عب11:11)، أن يعطى الذين يسألون ويفتح باب الحياة لأولئك الذين يقرعون، ولكي يرى إن كانوا بعد إيمانهم بكلمته بالحق، هل يصبرون ويستمرون إلى النهاية في ملء ثقة الإيمان والاجتهاد، يسألون ويطلبون ولا تخور قلوبهم أو يتراجعون، وبعدم إيمان وبدون رجاء يحتقرون الهدف ولا يثبتون إلى النهاية لأن الله قد أّخر ميعاد موهبته، وأيضاً لأجل امتحان إرادتهم وقصدهم.

          3 ـ فإن الذي لا ينال النعمة سريعاً بسبب تأنى الله فإنه يشتعل شوقاً أكثر ويزداد رغبة في الخيرات السماوية. ويزداد كل يوم اشتياقاً واجتهاداً، ويزداد ركضاً وسعياً ويزداد في كل فضيلة ويظهر جوعاً وعطشاً إلى ما هو صالح ولا يتعوّق بسبب الإيحاءات التي تتحرك في نفسه، ولا يتحوّل إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر، ومن الجهة الأخرى فإنه لا يسلّم نفسه إلى الكسل تحت ستار التظاهر بالصبر قائلاً مثلاً: " في يوم أو آخر سأحصل على نعمة الله" ومن هنا تغويه الخطية وتقوده إلى التغافل والإهمال.

          ولكن مادام الرب في تأخيره للموهبة إنما يتأنى بمحبة ممتحناً إيمانه ومحبته، فينبغي على الإنسان نفسه أن يكون أكثر حرصاً واجتهاداً ولا يكلّ أو يفشل بل يطلب عطية الله إذ أنه قد وثق في ذاته بأن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، فهو الذي وعد أن يعطى نعمته لأؤلئك الذين يطلبون بإيمان بكل صبر إلى النهاية.

أمانة الله وفحص النفس :

          4 ـ لأن الله أمين وصادق في تعامله مع النفوس المؤمنة الأمينة، أي مع أولئك " الذين ختموا أن الله صادق" (يو33:3) حسب الكلمة الصادقة. لذلك فبحسب هذه البصيرة الإيمانية في داخلهم، يفحصون نفوسهم ليروا إن كانوا ناقصين من جهتهم في أي ناحية من النواحى: في الجهد، في السعي، في الغيرة والاجتهاد، أم في الإيمان أم المحبة أو بقية اتجاهات الفضيلة، وبفحصهم لنفوسهم بكل تدقيق فإنهم يغصبون أنفسهم بأقصى طاقة عندهم لكي يرضوا الرب، إذ سبق أن آمنوا ووثقوا تماماً أن الله إذ هو صادق وأمين لن يحرمهم من موهبة الروح إن ظلوا إلى النهاية يخدمون الرب ويعبدونه بكل اجتهاد وينتظرونه، وأنهم سينالون النعمة السماوية الممنوحة لهم، وهم لا يزالون في الجسد وينالون الحياة الأبدية.

كل حبهم نحو الرب :

          5 ـ وهكذا فإنهم يوجّهون كل حبهم نحو الرب رافضين كل شيء آخر وناظرين إليه وحده برغبة كبيرة وجوع وعطش كثير. وينتظرون دائماً قوة النعمة المُنعشة والمعزية. وهم لا يطلبون بإرادتهم تعزية وانعاشاً من أي شيء في هذا العالم ولا يرتبطون به، بل يرفضون دائماً الإغراءات المادية وينتظرون المعونة والحماية والتأييد من الله وحده، وفي هذه الحالة يكون الرب نفسه حاضراً بطريقة خفيّة مع هذه النفوس التي تأخذ على عاتقها هذا النوع من الاجتهاد وعزم القلب والاحتمال، ويساعدهم ويحفظهم، ويثبتهم في كل ثمر الفضيلة. كل هذا يحدث رغم أنهم يجدون أنفسهم معرّضين للصراع ورغم أنهم لم يتزينوا بعد بيقين الحق ولم تظهر لنفوسهم حالة الحصول على نعمة الروح وانعاش الموهبة السماوية ولم يختبروها اختباراً كاملاً بكل ملئها، وهذا يحدث حسب حكمة الله التي تفوق التعبير وأحكامه التي تعلو الفحص، التي بها يمتحن النفوس المؤمنة بطرق متنوعة بقصد أن يُحضرهم إلى محبة كاملة بملء حريتهم واختيارهم.

ليس عند الله محاباة:

          فإنه توجد حدود ومقاييس ومراحل للاختيار الحرّ ولقصد المحبة ولاتجاه العقل لطاعة كل وصاياه المقدسة بأقصى ما هو مستطاع، وحينما تملأ النفوس مكيال محبتها وطاعتها فإنها تُحسب أهلاً للملكوت والحياة الأبدية.

          6 ـ لأن الله عادل وعادلة هي أحكامه، وليس عنده محاباة، ويُحاسب كل واحد بحسب النِعم المختلفة التي قد منحها للبشرـ سواء كانت خاصة بالجسد أو بالروح، أو كانت خاصة بالمعرفة أو الفهم أو التمييز، وهو يطلب ثمار الفضيلة على حسب ما أعطى كل واحد، وهو سيعطى كل واحد حسب ما يستحقه بحسب أعماله في يوم الدينونة. إنه سيأتى كما يخبرنا الكتاب " وسيجازى كل واحد حسب أعماله" (رو6:2) والأقوياء يُعذبون عذاباً شديداً لأن " الرحمة تغفر للمتواضعين" (الحكمة6:6). ويقول الرب: " أما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيراً، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاً، فكل من أُعطى كثيراً يُطلب منه كثير ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر" (لو 47:12و48). ولكن المعرفة والفهم هي أنواع مختلفة، سواء كانت بحسب النعمة وموهبة الروح السماوية أو بحسب الذكاء والتمييز الطبيعي، وبحسب التعلّم من الكتب الإلهية. وكل إنسان يكون مسئولاً عن ثمار الفضيلة بحسب نسبة ما مُنح له من الله سواء ما مُنح له طبيعياً أو ما أُعطى له بنعمة الله.

          لذلك فكل إنسان هو بلا عذر أمام الله في يوم الدينونة، لأن كل شخص سيُعطى جواباً عن إرادته وقصده ـ بحسب ما قد عرفه ـ لكي يثمر ثمار الإيمان والمحبة وكل فضيلة أخرى في علاقته بالله سواء كانت معرفته عن طريق سماع كلمة الله أو عن طريق آخر.

          7 ـ إن النفس ألأمينة المُحبة للحق تتطلع إلى البركات الأبدية المحفوظة للأبرار، وإلى المعونة التي لا يُنطق بها، أي معونة النعمة الإلهية التي تحلّ علينا. ولذلك تعتبر نفسها وكل جهدها وآلامها وتعبها أنها ليست شيئاً بالمقارنة بمواعيد الروح التي تفوق الوصف.

          ومثل هذا الإنسان هو المسكين بالروح الذي أعلن الرب أنه مغبوط ومُطوب، هذا هو الذي يجوع ويعطش إلى البرّ (مت6،3:5) هذا هو المنسحق القلب.

          وأولئك الذين يأخذون على عاتقهم هذا القصد، والعزم والاجتهاد والتعب والاشتياق إلى الفضيلة ويثبتون في هذا إلى النهاية، فإنه يُوهب لهم أن يحصلوا على الحياة والملكوت الأبدي بالحق. لذلك فلا يتشامخ إذن أحد من الأخوة، على أخيه، أو يرتئي عن نفسه رَأياً منتفخاً، بتأثير خداع الخطية لكي يفكر قائلاً مثلاً: " إنى قد حصلت على موهبة روحية " لأنه لا يليق بالمسيحيين أن يفكروا هكذا فأنت لا تعرف ماذا سيكون حاله في الغد وأنت تجهل ماذا ستكون نهايته وماذا تكون نهايتك، بل ليحترس كل واحد لنفسه ويمتحن ضميره في كل حين ويختبر حركات قلبه من جهة اجتهاده وسعيه من الداخل بكل قلبه إلى الله ويتطّلع نحو الهدف الكامل هدف الحرية والتحرر من الشهوات والحصول على سلام الروح، وليكمل سعيه بدون توقف وبلا تكاسل بحيث لا يتكل أبداً على أي عطية روحية ولا على أي برّ حصل عليه.

          والمجد والكرامة والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.

Back

 

1