عظات
القديس مقاريوس الكبير

 

العظة الحادية والثلاثون
تغيير الذهن والصلاة الحقيقية
 

" في أنه ينبغي أن المؤمن يتغير في ذهنه، ويجمع أفكاره كلها في الله. فإنه في هذا تتركز كل خدمة الله".

تغيير القلب :

          1 ـ ينبغي على المؤمن أن يتوسل إلى الله لكي يغيّره في كل اتجاهاته وأغراضه بتغيير قلبه، من المرارة إلى الحلاوة وأن يتذكر كيف شفي الرجل الأعمى، وكيف حصلت المرأة نازفة الدم على الشفاء بلمسها ثوب المسيح وهو الذي سبق أن غيّر طبيعة الأُسود المفترسة، وحوّل طبيعة النار، فإن الله هو الصلاح الذي لا مثيل له والخير الأعلى، وينبغي أن تُجمع فيه ونحوه عقلك وأفكارك ولا تفكر في شيء آخر، سوى أن تنتظره وتنظر إليه برجاء وثقة.

          2 ـ لذلك فلتكن النفس مثل ذلك الإنسان الذي يجمع الأطفال الضالين معاً، وهكذا تجمع النفس الأفكار التي شتتتها الخطية وتؤنبها بشدة. وتقود الأفكار للرجوع إلى بيتها، وهى تنتظر الرب دائماً بالصوم والمحبة لكي يأتي إليها ويجمع الأفكار حقاً. وحيث إن المستقبل غير مضمون، لذلك ينبغي على المؤمن أن يضع رجاءه بالأكثر في قائده، ويكون مملوءً بالرجاء الصالح، ويتذكر كيف أن راحاب وهى تعيش بين الغرباء آمنت بإله إسرائيل وحُسبت مستحقة أن تشترك في امتياز شعب الله القديم، بينما الإسرائيليون أنفسهم تحوّلوا بعواطفهم ورجعوا بقلوبهم إلى مصر. لذلك فكما أن راحاب لم يصبها أي أذى وهى تسكن بين الغرباء، بل إن إيمانها أعطاها نصيباً في ميراث الإسرائيليين، هكذا الخطية لن تؤذى أولئك الذين بالرجاء والإيمان ينتظرون الفادي الذي حينما يأتي إليهم فإنه يغيّر أفكار النفس ويجعلها إلهية وسماوية، وصالحة، ويعلم النفس الصلاة التي بلا تشتت أو زيغان. أنظر قول الرب " لا تخف أنا أسير أمامك والهضاب أمهد، أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف" (إش2:45). ويقول أيضاً " أحذر أن يكون في قلبك فكر شر خفي، ولا تقل في قلبك هؤلاء الشعوب أكثر منى وأقوى" (تث9:15، 17:7).

          3 ـ فإذا لم تنحل نفوسنا بالتكاسل، وبإعطاء مراعى عقولنا لأفكار الخطية المشوشة، بل بالعكس نجذب عقولنا بإرادتنا ونغصب أفكارنا إلى الرب، فإنه بلا شك يأتى إلينا ويجمعنا إليه بالحق.

انتظار الرب في الداخل :

          إن كل ما يرضى الله وكل خدمة تُقدم له إنما هي موجودة في القلب. لذلك اجتهد أن ترضى الرب ناظراً إليه كل حين ومنتظراً إياه في داخلك، وفتش عنه في أفكارك واغتصب إرادتك وقصدك لتتجه وتمتد دائماً نحوه وحينئذ ستنظر كيف يأتي إليك ويصنع عندك منزلاً (يو24:14). فبقدر ما تجمع عقلك لتطلبه فإنه يتنازل إليك بحنان أكثر جداً وصلاح فائق ورحمة ويأتى إليك ويعطيك راحة وبهجة، إنه يقف ناظراً إلى عقلك وأفكارك ورغباتك، ويرى كيف تطلبه، هل تطلبه حقيقة بكل نفسك بلا تغافل وبلا إهمال؟

          4 ـ وحينما ينظر غيرتك في طلبه، فإنه حينئذِ يُظهر ويكشف نفسه، ويعطيك معونته الخاصة ويجعل لك النصرة وينقذك من أعدائك. وهو إذ ينظر أولاً كيفية طلبك له وانتظارك إياه بكل قلبك برجاء لا ينقطع نحوه، فإنه حينئذ يعلمك ويعطيك الصلاة الحقيقية والمحبة الحقيقية التي هي الرب نفسه الذي يصير لك في داخلك كل شيء: الفردوس، وشجرة الحياة، واللؤلؤة الكثيرة الثمن، والإكليل، والباني، والزارع، والمتألم، والذي لا يتألم، والإنسان، والإله، والكرمة، والماء الحي، والعريس، والمحارب، والسلاح، المسيح الكل في الكل.

          وكما أن الطفل لا يعرف أن يعتني بنفسه أو يعمل أموره بنفسه ولكنه يتطّلع فقط إلى أمه ويصرخ ويبكى إلى أن تتحرك إليه بحنان وتحمله، هكذا النفوس المؤمنة فإنها تضع رجاءها في الرب وحده وتنسب كل بر إليه وحده. وكما أن الغصن يجف بدون الكرمة، وهكذا أيضاً من يشتهى أن يتبرر بدون المسيح. وكما أن السارق واللص هو الذي لا يدخل من الباب بل يطلع من موضع آخر، هكذا أيضاً الإنسان الذي يبرر نفسه بدون الذي يُبرّر.

لنقدم كل نياتنا وأفكارنا :

          5 ـ لذلك فلنأخذ جسدنا هذا ونجعله مذبحاً، ونضع عليه كل نياتنا وأفكارنا ، ونتوسل إلى الرب أن يرسل من السماء النار العظيمة غير المنظورة فتلتهم المذبح وكل ما عليه. ويسقط جميع كهنة البعل الذين هم القوات المضادة. وحينئذٍ سنرى المطر الروحاني آتياً إلى النفس مثل كف إنسان، وهكذا يتحقق فينا وعد الله كما هو مكتوب بالنبي " سأقيم وأبنى أيضاً خيمة داود الساقطة وسأبنى ردمها وأقيمها ثانية" (أع16:15) حتى أن الرب برحمته ومحبته يُشرق على النفس التي تسكن في الليل والظلمة وفي سكر الجهالة، لكيما تستيقظ وتفيق إلى التعقّل وتسير بلا تعثر، وتعمل أعمال النهار والحياة. فإن النفس تتغذى وتنمو من المصدر الذي تأكل منه، إما من العالم أو من روح الله، والله نفسه يجد غذاء في داخلها، ويحلّ فيها ويحيا ويجد راحة ويسكن فيها.

          6 ـ وبالاختصار، فإن كل واحد يمكنه، إذا شاء أن يختبر نفسه ويرى من أين يأخذ غذاءه وتنعمه، وأين يعيش، وفي أي حالة يجد نفسه، وهكذا إذ يدرك ذلك ويفهمه ويحصل على تمييز دقيق وحكم صحيح، يمكنه أن يسلّم نفسه تماماً للتحرك في اتجاه ما هو صالح.

انتبه لنفسك وأطلب قوة فعل المسيح :

          وحينما تكون في الصلاة، فانتبه إلى نفسك، ولاحظ أفكارك والحركات التي تتحرك فيك، من أين تأتى؟ هل هي من الله أم من العدو؟ ومن الذي يمد قلبك بالغذاء، هل هو الرب أم ولاة العالم الذين لهذا الدهر؟ وحينما تكملين، أيتها النفس، هذا الامتحان وتعرفيه، فتوسلي إلى الرب برغبة واجتهاد لكي تحصلي على الغذاء السماوي والنمو، وعلى قوة فعل المسيح بحسب القول المكتوب " إن سيرتنا هي في السموات" (في20:3). وليس ذلك في شكل أو رمز كما يتخيل البعض (بل حقاً في السموات).

          وانظر، عقل وفهم أولئك الذين لهم فقط صورة التقوى، فإن فكرهم عن التقوى هو مثل العالم. وأنظر إلى تحرك ميولهم، وتموج وتذبذب قصدهم وفكرهم غير الثابت وخوفهم وفزعهم، بحسب القول المكتوب " بالأنين والرعب تكون على الأرض" (تك12:4 السبعينية)، وبحسب عدم إيمانهم وارتباك أفكارهم المضطربة فإنهم يتقلبون كل ساعة مثل بقية الناس في العالم. مثل هؤلاء الأشخاص يختلفون عن العالم في الشكل الخارجي فقط، ولكن ليس في القلب والفكر، ويختلفون عن العالم فقط في الممارسات الجسدية التي للإنسان الخارجي، بينما في القلب والفكر هم ينجذبون في كل الاتجاهات التي في العالم. وهم مربطون بالرباطات الأرضية والهموم غير المثمرة ولم يحصلوا على السلام من السماء في قلوبهم كما يقول الرسول: "يملك في قلوبكم سلام الله" (كو15:3). هذا السلام الذي يملك على عقول المؤمنين ويجددها في محبة الله ومحبة كل الأخوة.

          والمجد والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.

Back

 

1