عظات
القديس مقاريوس الكبير
العظة الرابعة والثلاثون
تمجيد الأجساد في القيامة
بخصوص المجد
الذي سيُوهب لأجساد المسيحيين في
القيامة وكيف
ستضيء أجسادهم مع نفوسهم.
قيامة النفس أولاً
ورؤيتها لمجد اللاهوت :
1 ـ كما
أن العيون الجسدية ترى كل شيء بوضوح، هكذا نفوس القديسين ينكشف لها جمال اللاهوت
ويصير ظاهراً لها وينجذب المسيحيون في تأمل محاسن اللاهوت والتفكير فيها. ولكن مجد
اللاهوت هذا إنما هو مُخفي عن العيون الجسدية، وهو يُكشف بوضوح للنفس المؤمنة ـ
النفس التي كانت ميتة ـ والتي يقيمها الرب من الخطية، كما أقام الأجساد المائتة
أيضاً، وهو يعد لها "سماء جديدة" و" أرضاً جديدةً" (رؤ1:21)
وشمساً للبر، معطياً للنفس كل شيء من لاهوته.
فهناك عالم حقيقي وأرض حية، وكرمة مثمرة، وخبز الحياة، وماء حي، كما هو مكتوب
" إني أؤمن بأن أرى خيرات الرب في أرض الأحياء" (مز13:27)، وأيضاً
" ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها"
(ملاخى2:4). وأيضاً الرب نفسه يقول " أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو1:15).
وأيضاً " أنا هو خبز الحياة" (يو35:6) وأيضاً " كل من يشرب من
الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو14:4).
2 ـ لأن
مجئ الرب كان كله لأجل الإنسان ـ الإنسان الذي كان مطروحاً ميتاً في قبر الظلمة
والخطية والروح النجس والقوات الشريرة ـ لكي يقيم الإنسان ويحييه في هذه الحياة
الحاضرة ويطهره من كل سواد وظلمة، وينيره بنوره الخاص، ويُلبسه ثوبه الخاص، أي
الثوب السماوي الذي هو ثوب اللاهوت.
تمجيد الأجساد التي
أُقيمت نفوسها :
ولكن في قيامة الأجساد، التي سبق أن أُقيمت نفوسها قبلاً وتمجدت، فإن الأجساد
أيضاً تتمجد حينئذٍ مع النفوس، وتستنير بالنفس التي قد استنارت وتمجّدت في هذه
الحياة الحاضرة لأن الرب هو بيتهم وخيمتهم ومدينتهم. وهم يلبسون مسكناً من السماء
"غير مصنوع بأيدي" (2كو1:5)، وهو مجد النور الإلهي إذ قد صاروا أبناء
النور.
وهم لن ينظروا إلى بعضهم البعض بعين شريرة، لأن الشر نُزع منهم. وهناك " لا
يوجد ذكر وأنثى ولا عبد وحر" (غل28:3). لأن الجميع يتغيّرون إلى طبيعة
القداسة الإلهية ويصيرون ذوى صلاح وخير، وآلهة وأبناء لله. هناك يخاطب الأخ أخته
بسلام بلا خجل أو تشويش، لأن الكل واحد في المسيح ويستريحون في النور الواحد.
والواحد ينظر إلى الآخر وفي نظره يضئ بالحق، في التأمل الحقيقي للنور الذي لا
يُعبّر عنه.
أمجاد تفوق كل تعبير :
3 ـ وهكذا بأشكال كثيرة، وأمجاد إلهية كثيرة متنوعة ينظرون بعضهم بعضاً وكل منهم
ينذهل ويفرح " بالفرح الذي لا يُنطق به" (1بط8:1) إذ ينظرون مجد بعضهم
البعض. انظر كيف أن أمجاد الله تفوق كل تعبير ونُطق
وتفوق كل فهم فهي أمجاد النور الذي لا يُعبّر عنه والأسرار الأبدية وخيرات لا تُعد
ولا تُحصى.
وكما أنه في عالم الحواس يستحيل على أي إنسان أن يدرك عدد نباتات الأرض، أو البذور
أو أنواع زهور الأرض ولا يقدر إنسان واحد أن يقيس أو يفهم غنى الأرض كلها، وكذلك
في البحر لا يستطيع إنسان أن يحصى الكائنات الحية التي فيه بكل أنواعها
واختلافاتها أو أن يقيس مياه البحر واتساعه وعمقه. وكذلك في الهواء لا يستطيع أحد
أن يعرف عدد الطيور، أو أنواعها وأجناسها، وأيضاً لا يستطيع أن يفهم عظمة السماء
ويدرك مواقع النجوم ومساراتها، هكذا أيضاً فإنه يستحيل أن ننطق أو نصف غنى
المسيحيين الذي لا يُقاس ولا تستطيع أن تدركه العقول. لأنه إن كانت تلك المخلوقات
لا عدد لها ولا حصر ولا يستطيع أن يدركها عقل إنسان تماماً، فكم بالحري يكون ذلك
الذي خلقها وأعدها!
لذلك ينبغي على كل واحد بالحري أن يفرح جداً ويُسرّ لأن مثل هذا الغنى ومثل هذا
الميراث، قد أُعد للمسيحيين، حتى أنه لا يستطيع أحد أن ينطق به أو يشرحه شرحاً
كافياً.
بل بكل اجتهاد واتضاع ينبغي أن نسير في الجهاد المسيحي وننال ذلك الغنى. لأن ميراث
المسيحيين ونصيبهم هو الله نفسه. كما يقول النبى " الرب هو نصيب
ميراثي وكأسى" (مز5:16). والمجد لذلك الذي يعطى نفسه ويُشرك نفوس المسيحيين
في قداسة طبيعته إلى الأبد آمين.