عظات
القديس مقاريوس الكبير
العظة
الخامسة والأربعون
حضور المسيح وحده يخلص الإنسان ويشفيه
لا
يستطيع العلم ولا يستطيع غنى هذا العالم أن يشفي
نفس الإنسان بل حضور المسيح فقط هو الذي يشفيه، وفي هذه العظة شرح لقرابة الإنسان
العظيمة لله.
1ـ إن
الذي اختار حياة العزلة، ينبغي أن يعتبر أن جميع الأشياء الخاصة بهذا العالم،
أجنبية وغريبة عنه، فالذي يتبع صليب المسيح حقاً فإنه بعد أن ينكر كل
الأشياء حتى نفسه أيضاً (لو26:14) ينبغي أن يسمّر عقله في حب المسيح، فيفضّل الرب
على الوالدين والأخوة والزوجة والأولاد والأقرباء والأصدقاء والممتلكات لأن هذا ما
علّم به الرب حينما قال: " كل من لا يترك أباه أو أمه أو أخوته أو زوجته أو
أولاده أو حقوله ويتبعني فلا يستحقني" (انظر
مت37:10، لو26:14، مت29:19). فليس بأحد غيره أو بشيء غيره الخلاص والسلام للناس
كما سمعنا.
التغيير الذي أصاب
النفس بالسقوط :
فكم من ملوك ظهروا من
نسل آدم وملكوا على الأرض كلها وظنوا في أنفسهم شيئاً عظيماً بسبب سلطانهم
الملوكي، ومع ذلك لم يستطيع أي واحد منهم رغم كل ما له من سلطان أن يكشف الشر الذي
تغلغل في النفس بسبب معصية الإنسان حتى جعلها مظلمة تماماً.
إنهم لم يعرفوا خطورة التغيير الذي أصاب النفس،
وكيف أن العقل كان في الأصل نقياً، وكان في كرامة عظيمة إذ كان يتأمل إلهه دائماً،
وأما الآن فبسبب السقوط فقد اكتست النفس بالعار وعميت عينا القلب حتى لم تعودا
تنظرا ذلك المجد الذي كان ينظره أبونا آدم قبل معصيته.
العلم والحكمة لا
تخلّص الإنسان :
2 ـ وكان في العالم أيضاً حكماء كثيرون بعضهم برزوا في الفلسفة وآخرون في السفسطة
والمغالطة وآخرون في الفصاحة والبلاغة, وآخرون أحرزوا ثقافة عالية، والبعض الآخر
نبغوا في الشعر وغيرهم كتبوا في التاريخ والقصص، كما أن هناك أيضاً كثيرون من
أصحاب الحِرف الذين مارسوا فنون صنائعهم المختلفة فالبعض يحفرون على الأخشاب كل
أنواع الطيور والأسماك وأشكال البشر. وفي هذا المجال اجتهدوا أن يُظهروا مهارتهم.
والبعض الآخر رسموا صوراً أو نحتوا تماثيلاً من النحاس وغيره، وآخرون أقاموا أبنية
عظيمة وجميلة. وآخرون حفروا الأرض واستخرجوا منها الفضة والذهب وغيرها من الأحجار
الكريمة الفانية. وآخرون كان لهم جمال جسدي ويفتخرون بجمال وجوههم وقد خدعهم
الشيطان بالأكثر وأسقطهم في الخطية. وكل هؤلاء الذين تكلّمنا عنهم إذ قد أَسَرتهم
الحيّة الساكنة في داخلهم، وإذ لم يعرفوا الخطية الساكنة فيهم، صاروا عبيداً لقوة
الشر ولم ينفعهم عملهم أو فنهم أو مهارتهم شيئاً.
3ـ لذلك، فالعالم المملوء بكل الأنواع، إنما يشبه رجلاً غنياً يملك بيوتاً عظيمة
فاخرة، ويملك ذهباً وفضة وممتلكات كثيرة وعنده خدام كثيرون، ولكنه مضروب بآلام
وأمراض صعبة. هذا رغم غناه ورغم التفاف جميع أفراد أسرته حوله، فإنهم لا يستطيعون
أن يريحوه من آلامه وأوجاعه.
حضور المسيح وحده
يطهّر النفس والجسد :
إذن، فلا يوجد شيء في هذه الحياة، لا الاخوة، ولا الغنى، ولا القوة، ولا أي شيء
مما ذكرناه سابقاً يستطيع أن يشفي الإنسان من الخطية التي غرق فيها، حتى صار غير قادر أن يرى
الأشياء بوضوح بل إن حضور المسيح وحده هو الذي يستطيع أن يطهر النفس والجسد. لذلك
فلنطرح جانباً كل هموم هذه الحياة ونصرخ إلى الرب ليلاً ونهاراً مكرّسين نفوسنا
له. إن هذا العالم المنظور وما فيه من ملذات إنما تُرضى الجسد فقط، ولكنها تزيد
أتعاب النفس وأمراضها وتكثر آلامها.
4 ـ كان هناك إنسان حكيم أراد أن يسعى بكل جهده ليختبر كل أمور هذا العالم لعله
يجد فيها منفعة أو فائدة. فذهب إلى الملوك وأصحاب السلطان والحكام ولم يجد خلاصاً
ولا شفاءً لنفسه بعد أن أمضى معهم زمناً طويلاً، في النهاية لم ينتفع شيئاً ـ فمضى
إلى حكماء العالم وفلاسفته، وذهب إلى الخطباء ولكنه تركهم أيضاً إذ لم يجد لديهم
ما ينتفع به. ثم واصل سعيه فوصل إلى الرسامين والذين يستخرجون الذهب والفضة من بطن
الأرض وإلى أصحاب الحرف الفنية لكنه لم يجد أيضاً عند كل هؤلاء ما يشفي نفسه
الجريحة .
وأخيراً ترك هؤلاء جميعاً وبدأ يطلب الله نفسه، الله الذي يشفي آلام النفس
وأمراضها. وبينما هو يفكر في نفسه ويتأمل في تلك الأمور عبرت في مخيلته أشياء
كثيرة.
5 ـ ولنأخذ مثلاً آخر: إذا كانت هناك امرأة غنية تملك أموالاً كثيرة وبيتاً فاخراً
ولكنها مع ذلك لا تجد من يحميها، فهناك كثيرون يهاجمونها راغبين أن يلحقوا بها
الأذى والخراب، فلأنها لا تستطيع أن تقبل هذا الأذى والهجوم فهي لذلك تبحث عن زوج
قوى يكون كفواً لهذا الغرض ومتدرباً من جميع الوجوه. وحينما تجد مثل هذا الرجل بعد
سعى كثير، فإنها تفرح به فرحاً عظيماً وتجد فيه حصناً يحميها.
قرابة النفس لله :
هكذا
النفس البشرية فإنها بعد السقوط قد جُرحت كثيراً ولفترة طويلة من القوة المعادية
وصارت في خراب عظيم وأصبحت " أرملة ووحيدة" (1تى5:5)، متروكة من
العريس السماوي بسبب تعديها الوصية وصارت ألعوبة في يد كل القوات الشريرة (إذ أنهم
جردوها وأخرجوها عن عقلها وضلّلوها عن المعرفة الروحية الحقيقية، حتى لا ترى أو
تدرك ما فعلوه بها بل جعلوها تظن أنها قد خُلقت على هذا الحال منذ البداية). وبعد
ذلك حينما سمعت كلمة الله وأدركت غربتها عن الله وكيف أنها صارت مرذولة بسبب
سقوطها بدأت تئن وتتوسل أمام الله محب البشر فوجدت الحياة والخلاص. لماذا؟ لأنها
رجعت ثانية إلى مصدرها الأصلي. فلا توجد قرابة أو رابطة مثل قرابة النفس لله أو
قرابة الله للنفس.
لقد صنع الله أنواعاً مختلفة من الطيور ـ بعضها يبنى عشه ويحصل على قوته من الأرض.
وطيور أخرى تأخذ قوتها من تحت الماء. وقد صنع أيضاً عالمين، واحد علوى لأرواح
الملائكة الخادمة (عب14:1)، وحدّد لهم فيه نظام حياتهم، وآخر سفلى للبشر على هذه
الأرض تحت هذا الهواء الذي نتنفسه.
الله سُرّ بالإنسان
وحده :
لقد خلق الله أيضاً السماء والأرض، والشمس والقمر، والمياه والأشجار المثمرة وكل
أنواع الكائنات الحية وأجناسها. ولكنه لا يجد راحته في أي من هذه المخلوقات. إنه
يحكم كل الخليقة، ولكنه لم يثبّت عرشه فيها ولا دخل في شركة معها. بل إن الله
قد سُرّ بالإنسان وحده ودخل في شركة معه وفيه وحده استراح.
النفس لا تجد راحتها
إلاّ في الرب :
انظر إذن كم هي قرابة الله للإنسان وقرابة
الإنسان لله!. لذلك فإن النفس الحكيمة بعد مرورها على جميع المخلوقات لا تجد راحة
لنفسها، إلاّ في الرب وحده والرب أيضاً لا يُسرّ بأحد سوى الإنسان وحده.
6ـ فإذا
رفعت عينيك نحو الشمس، فإنك تجد دائرتها في السماء ولكنها ترسل نورها واشعتها إلى
الأرض، وتوجه كل قوة النور وبهائه إليها. هكذا الرب أيضاً فإنه يجلس عن يمين
الآب " فوق كل رياسة وسلطان" (أف21:1) ولكنه يمد بصره وينظر إلى قلوب
الناس على الأرض، لكي يرفع إليه الذين يترجون نعمته وعونه. ولهذا فهو يقول: "
حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي" (يو20:12)، وأيضاً بولس يقول: "
أقامنا معه وأجلسنا معه عن يمينه في السمويات" (أف6:2).
إن الحيوانات غير العاقلة هي أحكم منا إذ أن كل منها ملازم لطبيعته الخاصة،
فالحيوانات المتوحشة تلازم الطبع الوحشي، والخراف تلازم طبيعتها، وأما أنت فإنك
لا ترتفع إلى أصلك السماوي الذي هو الرب نفسه، بل تسلم نفسك لأفكار الشر وترضى بها
في داخلك، وبذلك تجعل نفسك حليفاً للخطية وتحارب إلى جانبها ضد نفسك. وهكذا
تصير فريسة للعدو مثل الطير الصغير الذي يمسكه النسر ويأكله، أو مثل الخروف حينما
يمسكه الذئب أو مثل الطفل الجاهل الذي يمد يده للحيّة فتلدغه وتقتله. كل هذه
الأمثلة إنما توضح ما يحدث في الحياة الروحانية.
الشركة الكاملة مع
العريس السماوي هي الهدف :
7 ـ إن العذراء المخطوبة لرجل تقبل منه هدايا كثيرة قبل الزواج: جواهر وملابس
وأوانى ثمينة، ولكنها لا تقتنع ولا ترضى بكل هذه الهدايا إلى أن يأتى يوم العرس
الذي فيه تصير واحداً معه، كذلك أيضاً، النفس المخطوبة كعروس للعريس السماوي
فإنها تنال منه كعربون من الروح مواهب شفاء أو معرفة أو إعلانات. ولكنها لا تقنع
بهذه العطايا بل تترّجى الوصول إلى الشركة الكاملة معه والاتحاد به، أي إلى المحبة
التي لا تتغير ولا تسقط أبداً بل تحرر طالبيها من الشهوات والقلق والتشويش.
والطفل الصغير الذي يزينونه بجواهر وملابس ثمينة فإنه حينما يجوع لا يفكر في شيء
مما يلبسه، بل يتجاهل كل هذه الزينة ويهتم فقط بالوصول إلى ثدي مرضعته ليحصل منها
على اللبن. وعلى هذا المثال يمكنك أن تقيس مواهب الله الروحانية، الذي له المجد
إلى الأبد آمين.