نبذة عن بلاد الأندلس
تقع إسبانيا في جنوب غرب
أوروبا، عاصمتها مدريد، تشمل الجزء الأكبر من شبـه جزيرة إيبريا، تجاورها البرتغال،
وتفصلها جبال البرنس عن فرنسا، ومضيق جبل طارق عن المغرب جنوباً، أهم مدنها:
برشلونة، بلنسية، سرقوسة، مرسية، قرطبـة، ولها ساحل طويل على البحـر المتوسط في
الشرق والجنوب الشرقي.
لمحة تاريخية
خضعت إسبانيا في القرن الأول الميـلادي لحكم الإيبريين سكـان البـلاد القدمـاء،
واكتسبوا حق المواطنيـة الرومانيـة، ولكنها ما لبثت أن خضعت في القرنين الخامس
والسادس لحكم البرابرة الغزاة الذين شنوا عليها حرباً مدمرة .
في القرن العاشر، وبالتحـديد في سنة 711م. بدأ الفتح الاسلامي لإسبـانيا بقيادة
طارق بن زياد الذي هزم ملك القوط في معركة "وادي بكة"، وشتت شمل رجاله، وفي السنة
التالية جنّد موسى بن نصير بما جرى حتى جنّد جيشاً، والتحق بطارق في سنة 93هـ،
وأكملا فتح إسبانيا التي أسمـاها المسلمون "الأندلس"، ولكن المسلمين تعرضـوا لنكسة
في 115هـ، 732م حيث انهزموا في معركة "بواتيه"على يد ملك الفرنج شارل مارتل، وبذلك
أوقف الزحف الاسلامي داخل القارة الأوروبية.
ظلت هذه البلاد خاضعة للخلافة الأموية 39 سنة، وبلغت ذروة مجدها في أيام عبد الرحمن
المعروف بـ"الداخل"، ولكن عصر الأمجاد هذا تراجع حيث سادت صفوفهم الفرقة والانقسام،
وأنهكتهم الصراعات، ما سهّل على جيوش قشتالة استعادة إسبانيا، وإخضاع غرناطة آخر
معاقل المسلمين فيها في سنة 1492م. وهي السنة التي قـام كولومبوس فيها برحلته
الاستكشافية إلى أميركا، ليرحل المسلمون عن"الأندلس"نهائياً، بعد أن أخضعوها
لسلطانهم ثمانية قرون.
ترك المسلمون في الأندلس بصمات واضحة في مختلف الميادين، ماجعل منها حاضرة متألقة،
وحلقة وصل حضاري بين الاسلام والغرب، وركيزة من الركائز الأساسية للنهضة الحديثة في
أوروبا والعالم، ويشهد على ذلك ما خلّفوه من آثار، بلغت غاية في الدقة، والاتقان،
والروعة، والجمالية.
ومن الجدير ذكره أن المسلمين في الأندلس لم يعيشوا نمطاً واحداً، بل طرأت على
أحوالهم بعض التغيرات،حيث كان للظروف والعوامل التي أحاطت بهم دورها في إبراز
سماتهم الحضارية، وانتاج مفاهيمهم السياسية والفكرية ـ وبتعبير آخر ـ منظومتهم
الحياتية، سواء كانوا من الذين فتحوها، أو الذين عاشوا فيها، أو الذين اعتنقوا
الإسلام من الإسبان، أو الذين تبنوا بعض العادات والتقاليد الإسلامية.
الفاتحون
كانت أولى التسميات التي أطلقت على المسلمين في إسبانيا، هي تسمية «المسلمون
الفاتحون» التي شملت كلّ المسلمين سواء الذين فتحوا شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا
والبرتغال حالياً) سنة 92هـ (711م) سواء كانوا من البربر الذين حضروا من المغرب مع
القائد العسكري طارق بن زياد، وكان عددهم سبعة آلاف جندي، أو من العرب الذين حضروا
من المشرق العربي ودخلوا شبه الجزيرة الإيبيرية سنة (712م) بقيادة موسى بن نصير
لمساعدة الفاتحين الأوائل ومتابعة تقدّمهم في الأراضي الإيبيرية.
حقق هؤلاء انجازات باهرة ، وأخضعوا لسيطرتهم مدن إسبانيا، باستثناء بعض المناطق
الواقعة في الشمال، وتوغلوا في بعض الأراضي الفرنسية حتّى وصلوا إلى بواتييه، ولكن
شارل مارتل أوقف تقدّمهم سنة (732م) في وقعة بلاط الشهداء التي خسرها المسلمون
واستشهد فيها المجاهد الكبير عبد الرحمن الغافقي.
خضعت الأندلس منذ الفتح الإسلامي للأمويين، ومن ثُمَّ للعباسيين، ولم تلبث أن أصبحت
إمارة مستقلة على يدي عبد الرحمن الأوّل "الداخل" الذي فر إليها من السلطة
العباسية، واتخذ من قرطبة عاصمة لإمارته، الذي حاول أن يجعلها عاصمة على غرار دمشق،
فبنى جامع قرطبة الذي استوحى فكرته من جامع بني أمية في دمشق.
وبعد انتهاء فترة الإمارة سنة 929م. تولى الحكم عبد الرحمن الثالث "الناصر" وبدأت
معه فترة الخلافة التي دامت حتّى وفاة عبد الملك "ابن المنصور"سنة 1031م. وأدّت
وفاته إلى تشتت الخلافة، وظهور ممالك الطوائف الذين حكموا مناطق متفرّقة من
الأندلس.
المرابطون
شجعت حالة الانقسام والتشظي التي عصفت بالأندلس الجيوش الإسبانية في شمال إسبانيا
على لم شملها وتكتيل قواها، فتمكنت بقيادة ملكها ألفونسو السادس من استرداد مدينة
طليطلة من المسلمين سنة 1058م، التي شكّل سقوطها ضربة قوية للمسلمين، فاضطروا لطلب
مساعدة من إخوانهم المرابطين في المغرب. فلبوا الدعوة وهاجموا الإسبان في منطقة قرب
بداخوس (غرب إسبانيا) وانتصروا عليهم سنة 1086م في معركة الزلاقة. وتشجع قائد
المرابطين واستولى على الحكم الإسلامي في الأندلس بشكلٍ كامل وبقي مسيطراً عليه
حتّى عام 1148م. وقد أطلق اسم «المرابطين» على الأشخاص الذين التفوا حول العالـم
القيرواني الفقيه في الدِّين عبد اللّه بن ياسين الجذولي الذي أرسل معهم لتعليمهم
شريعة ربّهم إذ أقام رباطاً وانقادوا له .
الموحّدون
تولى الموحِّدون حكم
الأندلس بعد المرابطين ، وهم جماعة أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، ودعوا لتصحيح
الفهم الإسلامي، والعودة بالمسلمين إلى القرآن الكريـم والسنّة النبوية بعد انصراف
عددٍ من علماء المغرب بدراساتهم إلى المبالغة بالفقه المذهبي وفروعه، واستمروا في
حكم الأندلس حتّى سنة 1232م.
اتخذوا من إشبيلية عاصمتهم لهم، وجهدوا لجعلها في مصاف العواصم الكبرى، فشيدوا فيها
عدداً من المعالـم الحضارية، التي كان من أهمها الخيرالدا أو (المئذنة) التي بدأ
ببنائها أبو يعقوب يوسف سنة 1172م، وتابع ابنه أبو يوسف يعقوب المنصور بناءها من
بعده. وتعتبر الآن من أعظم الآثار الإسلامية في الأندلس ورمز مدينة أشبيلية. كما
خلّف الموحِّدون في إشبيلية برج الذهب الذي أقيم لحراسة المدينة ومراقبة حركة
الملاحة وللدفاع عنها من القشتاليين الذين سيطروا أخيراً على كثير من المواقع
الأندلسية المهمّة، وبدا تفوّق قواتهم واضحاً نتيجة لاتحادهم المتين واتفاقهم على
توجيه ضربة للحكم الاسلامي في الأندلس. وإزاء حالة التحدي برزت بعض الشخصيات
الإسلامية المهمّة مثل ابن الأحمر الذي استطاع بعد وفاة منافسه ابن هود تشكيل مملكة
غرناطة التي كانت تضمُّ غرناطة ومالقة وبعض المناطق الجنوبية في الأندلس.وكان من
أهم منجزاته العمرانية بناء قصر الحمراء العظيم الذي يُعتبر أهم أثر تركه العرب في
إسبانيا، والذي ما زال باقياً حتّى الآن كتحفة تمجد دور العرب المسلمين وإبداعهم
المعماري الباهر.
الأسالمة والمولّدون
دخل أهالي سكان البلاد الأصليين الاسلام بعد أن وجدوا في المسلمين كرم الأخلاق
وحُسن المعاملة ، وكان ذلك بخلاف ما لاقوه من معاملة القوطيين لهم، فأطلق عليهم اسم
الأسالمة، أو المسالِمَة في بعض الأحيان، كما كان يُطلق على أولاد الأسالمة اسم
«المولّدون»، وقد عاش المسلمون والأسالمة إخواناً من دون أي تمييز. وكان قد برز من
بين هؤلاء المسالمة عدد من الشخصيات المهمة كمهدي بن مسلم الذي تولى قضاء قرطبة
أيام والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي، وأبا محمَّد علي بن أحمد بن سعيد بن
سعيد حزم، العالـم الموسوعي والكاتب المشهور الذيكما يقال يعود في أصوله إلى
المسيحية.
الصقالبة
أمّا الصقالبة فقد برزت آراء مختلفة عن أصلهم، أكثرها رواجاً تشير إلى أنَّه كان
يؤتى بهم من الدول الأوروبية، وخصوصاً من بلاد السلاف شرق أوروبا، سلط الاهتمام على
البارزين منهم لتربيتهم تربية توافق ميولهم.
في البداية كانوا يعملون خدماً ثُمَّ لم يلبث أن تحسنت أوضاعهم شيئاً فشيئاً، حيث
ازداد عددهم في عهد عبد الرحمن الناصر، وتولوا وظائف حربية وإدارية في عهد المنصور
بن أبي عامر، كما برز منهم بعض المفكّرين والأدباء، ووصلوا إلى درجة عالية من
القيادة، فحكموا مملكة بلنسية في فترة الطوائف وبقوا في الحكم فترة من الزمن دامت
حتّى سنة 411هـ 1021م.
المدجّنون
وبعد استرداد المسيحيين لبعض المناطق الواقعة في شمال شرقي شبه الجزيرة الإيبيرية
وبالضبط إقليمي كاتولونيا وأراغون، بقي بعض المسلمين الذين لـم يهاجروا بعد خسارة
المسلمين لهذين الإقليمين تحت السيطرة المسيحية فسمّوا بـ"المدجّنين". وازداد عددهم
ازدياداً واضحاً بعد سقوط مدينة طليطلة سنة 1058م، وبلنسية سنة 1094م ومورسيا سنة
1266م. وقد لقي هؤلاء الكثير من العنف وسوء المعاملة من القشتاليين، ومُنعوا من
التكلّم باللغة العربية، فاضطروا للبحث عن لغة خاصّة بهم، وكانت "الخميادو" التي
استخدموا فيها الكلمات العربية وكتبوها بحروف إسبانية،كما شيدوا العمران، وأبدعوا
في الفنون، ولا يزال حتّى الآن الأثر الإسلامي واضحاً في الكنائس التي بُنيت في
عهدهم، كما لا تزال بعض فنونهم التقليدية معروضة في متاحف الآثار في مدريد وطليطلة
وغرناطة وقرطبة.
الموريسكيون
بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، وانتهاء حكم المسلمين للأندلس بقي كثيرٌ من المسلمين
تحت حكم السلطات الإسبانية التي أجبرتهم على التنصر بعد أعوام قليلة من سيطرتهم
عليها، وتحوّل العرب المسلمون إلى مسيحيين كاثوليك، وسمّوا بـ"الموريسكيين" أو
"المسلمين الصغار" أو "العرب المتنصرين"، وتابعوا استعمال لغة "الخميادو" التي كان
يتداولها المدجّنون، واستمرت هذه اللغة حتّى مطلع القرن الثامن عشر. وظهر أدب خاص
بهم دعي بالأدب الموريسكي. ولـكن الموريسكيين لم يقفوا موقف المتفرج إزاء وضعهم
الصعب، خاصة بعد نقض السلطات الاسبانية بنود معاهدة تسليم غرناطة لإسبانيا والتي
كانت تشمل 67 شرطاً تضمن الحياة العادية للمسلمين. فقاموا بتمرّدات ضدَّ المسيحيين،
ومن أهمها التمرّد الذي حصل في سنة 1500م في بلدة غواديس التي كانت جزءاً من مملكة
بني نصر في غرناطة منذ سنة 1238م. ولكن تمسك الموريسكيون بوجودهم وعاداتهم
وتقاليدهم الإسلامية، ومقاومتهم لكل المحاولات الهادفة للتخلي عنها، ولكن هذه
المحاولات لقيت مقاومة أدت إلى ظهور محاكم التفتيش ضدَّ كلّ من تبدو عليه أيّة صلة
بالإسلام أو يُضبط حاملاً أيّة شارة من شاراته أو مؤدياً لشعائره أو ممارساً
لعاداته. وعندما لـم تستطع السلطات الإسبانية فرض ما تريده عليهم قررت التخلّص منهم
بعد إلحاح شديد من الكنيسة، وصدر المرسوم الذي نصّ على نفيهم من أراضيها سنة 1609م
بحجّة التآمر على الحكم والاتصال مع عناصر من خارج البلاد، فرُحِّلوا إلى تونس
والجزائر والمغرب، وأسسوا قرى ومدناً أهمها قرية تستور. وبرز عددٌ من الموريسكيين
اللامعين منهم على سبيل المثال الكاتب أحمد بن القاسم الفقيه ابن الشيخ الحجري وكان
يُعرف بالشهاب الحجري وكانت له اليد الطولى في الترجمة من العربية إلى الإسبانية
وبالعكس وأهم كتاب له هو "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب".
الموروس
أمّا الموروس فهي جمع لكلمة مورو التي تعني العربي أو المسلم الذي أتى من المغرب،
وجاء هذا الاسم من اسم مراكش في المغرب. ويستعمل هذا اللقب بشكل خاطىء من قبل كثير
من الإسبان إذ يُطلقون لفظ مورو على كلّ عربي موجود في إسبانيا أو خارجها سواء كان
من المغرب أو من دول الشرق حتّى لو كان مسيحياً، ويستخدمون هذه التسمية للدلالة على
شخص يقوم بعمل غير محبب عندهم، ولا يُنادون به العربي وجهاً لوجه من دون معرفة درجة
تقبله له.
الموروس كورتادوس
أما المسلمين الذين كانوا يشتغلون بالزراعة ورعاية الماشية، ولـم يُسمح بتطبيق
قانون الإبعاد عليهم لأنهم كانوا عبيداً لأصحابهم، فلقبوا بالموروس كورتادوس أو
العرب المبتورين إن صحت الترجمة. وتابعت محاكم التفتيش مهماتها حتّى القرن الثامن
عشر، والذي كان بداية العكوف بشكل جزئي عن ملاحقة التظاهر بالإسلام أو التأييد له.
وقد تعرض هذا القانون في تللك الترة لانتقاد شديد من قبل بعض المفكرين والأدباء،
وفي مقدمة هؤلاء الأديب خوفياندس، ما أدّى في النهاية إلى إصدار القرار النهائي
بإلغاء محاكم التفتيش عام 1235هـ/ 1820م.
المستعربون
لم ينته أثر المسلمين وفضلهم على الإسبان بعد خروجهم منها، بل ما زالت بصماتهم في
مجالات الحياة كافة شواهد أبدية على عظمتهم. وبرز كثير من المستعربين أو النصارى
المعاصرين أو الأندلسيين
المسيحيين، وغالبيتهم من المسيحيين الذين اختلطوا بالأندلسيين وتبنوا بعض العادات
الإسلامية وتعلّموا اللغة العربية، وظلّوا في المناطق التي كان يحكمها العرب،
وعاشوا في بيوت لها مخطط البيوت العربية.
تعتبر حركة الاستعراب الإسبانية من أقدم أنواع الاستشراق في الغرب كنتيجة طبيعية
لحكم المسلمين الطويل لإسبانيا منذ بداية القرن الثامن الميلادي، وكانت دراسات
المستعربين الإسبان للمواضيع العربية أكثر عمقاً وتأثراً من دراسات المستشرقين
الغربيين للعالمين العربي والإسلامي. ولم تقتصر اهتمامات الاسبان في دراسة الاسلام
بل نرى الكثير من المستعربين الإسبان الذين سخّروا كثيراً من وقتهم لتعلّم اللغة
العربية لكي يُتاح لهم التعرّف جيّداً على حضارة العرب في إسبانيا وعلى تاريخ
الإسلام، وليكون اتصالهم بهم أشدّ صلة، ومعلوماتهم أكثر دقة، ويأتي في مقدمة هؤلاء
المستعربين أميليو غارثيا غوميز الذي لعب دوراً كبيراً في التعريف بالحضارة العربية
الإسلامية في الأندلس من خلال أبحاثه ومحاضراته المتنوّعة.
المسلمون الذين حنّوا إلى مجد أجدادهم
على رغم ظهور بعض الجاليات والعائلات من أصول إسلامية في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر، إلاَّ أنَّ دورها وعددها كان ضئيلاً. وما زاد في أعدادهم، تلك السمعة
الطيبة التي انتشرت في بداية النصف الثاني من القرن العشرين عن إسبانيا كواحدة من
أجمل بلاد العالـم، لما تتمتع به من طقس لطيف وطبيعة خلابة وشواطئ جميلة وآثار
معمارية عريقة، إضافة لما يتميّز به شعبها من حسن المعاشرة وكرم الضيافة وسهولة
المخالطة... وهذا ما شجع السياح والطلاب في كثير من دول العالـم على زيارتها
للدراسة أو للإقامة فيها وخصوصاً العرب والمسلمين الذين حنّوا إلى بلاد أجدادهم
وإلى فترة من تاريخهم المشرق، فيقيم قسم منهم في مدريد العاصمة الإسبانية التي يعود
الفضل في بنائها إلى الأمير الأندلسي محمَّد بن عبد الرحمن بن الحكم، وقسم آخر يقيم
في برشلونة ثانية المدن الإسبانية وأهمها اقتصادياً. أمّا القسم الأكبر فاستقر في
المدن الأندلسية قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية وماربيا، وبنوا فيها القصور
والفيلات الفخمة وشيدوا المساجد والمراكز الإسلامية وشجعوا جمعية الصداقة العربية ـ
الإسبانية، كما عملوا على تشكيل النوادي العربية ـ الإسبانية، وجمعية الصحافيين،
بهدف زيادة روابط الجاليات العربية بأوطانها، والإكثار من نشاطاتها في المناسبات
الدينية والعربية ووضع الحلول المناسبة لأولاد الجاليات العربية الذين يعيشون في
بيئة غربية مغايرة للبيئة العربية التي عاش فيها آباؤهم.
وعند التكلّم عن المسلمين في إسبانيا، يجب عدم نسيان المسلمين المقيمين في مدينتي
سبته ومليلة المحتلتين من قبل الإسبان، ويشكلون نسبة جيّدة من عدد المسلمين في كامل
إسبانيا الذي يُقدّر بحوالي 600 ألف مسلم، منهم 200 ألف شخص ولدوا وهم يحملون
الجنسية الإسبانية، أو لأبوين مسلمين، أو اعتنقوا الإسلام خلال السنوات العشرين
الأخيرة لأسباب مختلفة، مثل البحث عن أصولهم الأندلسية، أو التعب من الدين
الكاثوليكي، أو لأسباب مالية. هذا وتختلف أعمال المسلمين في إسبانيا بحسب وضعهم
العلمي والاقتصادي، فبعضهم يعمل كرجال أعمال أو أطباء أو أصحاب مطاعم، بينما يعمل
البعض الآخر، خصوصاً المسلمين المغاربة، بأعمال ذات مجهود عضلي نادراً ما يقوم بها
الإسبان.
ويواجه المسلمون في إسبانيا، نتيجة الظروف التي تمرّ بها تلك البلاد، مشكلات
متنوّعة، سواء لسوء تعامل بعض الإسبان معهم، وخصوصاً المتطرفين الذين يرون فيهم
منافسين لهم ولأولادهم عند البحث عن عمل، أو لإهمالهم من قبل المجتمع الإسباني، أو
لطبيعة حياتهم، وخصوصاً في ما يتعلّق بأسمائهم وصعوبة لفظها من قبل الإسبان.
************************* ************************* **********************
الإسلام في الأندلس.. إشكالية التاريخ والحضارة
امتطى ابو عبدالله الصغير صهوة فرسه مولياً ظهره لقصر الحمراء الشهير في يوم بارد
من ايام كانون الثاني 1492م. علت وجه أبي عبدالله سحابة كثيرة من الحزن وخيم على
الركب الصغير صمت طويل ينبئ عما يكتنف قلوب هذا الركب من غم شديد. سار ابو عبدالله
تتبعه امه وبعض من اهله وصحبه في ذلك الطريق الملتوي الطويل الذي يمر بين شعاب
غرناطه وجبالها متجهاً إلى منفاه ليفارق غرناطة إلى الابد.
كانت الشمس قد آذنت بالغروب واخذت تعكس باشعتها الذهبية على جدران قصر الحمراء
لتكسي حجارته بصبغة حمراء باهتة فتضفي عليه سحراً وجاذبية.
توقف أبو عبدالله قليلاً عند تلة صغيرة تُشرف على وادي غرناطة المكتظ ببيوته
البيضاء ليلقي نظرة وداع اخيرة على مدينته الحزينة التي يتوسطها قصره الشهير..
تسارعت في ذهن أبي عبدالله ذكريات الصبا وأيامه الجميلة التي قضاها في صالات وأروقة
هذا القصر وفي حدائقه الفناء الواسعة كان ابو عبدالله يعرف ان تلك الوقفة سوف تكون
الاخيرة وان تلك النظرة ستكون النهائية اذ ليس يأمل ابداً بأن يرى مدينته المحبوبة
ثانية، تمنى ابو عبدالله لو تطول تلك الوقفة لعله يستطيع ان يملأ عينيه بتلك
المناظر الساحرة التي تثير في نفسه ذكريات الصبا، إلاّ ان الحزن الذي يعتصر قلبه
سرعان ما استحوذ على عينيه وإذا بهما تنهمران دمعاً ساخناً حاول جاهداً ان يخفيه عن
نظرات امه الحادة التي عاجلته بلسانها الذرب.
إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً***لم تحافظ عليه مثل الرجال
نسيت عائشة الام انها كانت سبباً هاماً لسقوط غرناطة اخر معقل للاسلام في الديار
الاندلسية بسبب غيرتها وتسلطها على ولدها أبي عبدالله واحابيل مكرها التي كانت تنسج
شباكه في غرف القصر وصالاته.
وهكذا غادر ابو عبدالله آخر سلاطين بني الاحمر غرناطة تاركاً اهلها المسلمين لرحمة
الاسبان الذين لم تعرف الرحمة يوماً إلى قلوبهم سبيلاً، ولتبدأ مرحلة بائسة طويلة
مليئة بالاحزان والدموع، متسربلة بالدماء.. وليسدل الستار اخيراً على الاسلام في
الاندلس بعد بضعة قرون من السنين.
كان رحيل أبي عبدالله آخر ملوك بني الاحمر بداية النهاية للحكم الاسلامي في تلك
البقاع كما سنرى.
فتح الاندلس
كانت شبه الجزيرة الايبرية «اسبانيا» تحت حكم الملوك القوط الذين هاجروا اليها من
داخل اوروبا وقد عانى الاسبان كثيرا من ظلمهم وسوء ادارتهم وقد كانوا يتحينون الفرص
للتخلص منهم.
حانت الفرصة عندما جاء ملك القوط لذريق إلى الحكم بعد ان اغتصب الحكم من الملك
الشرعي واغتياله. فقد طلب بعض الاسبان النجدة من موسى بن نصير الذي أرسل قائداً
شاباً مع جيش صغير من المسلمين. كان هذا القائد هو طارق بن زياد الذي وطأت اقدامه
هو وجيشه ارض الاندلس في شهر رجب 92 هـ «711م» عند المضيق المسمى باسمه لهذا اليوم
«جبل طارق».
استطاع المسلمون من هزيمة لذريق وقتله وتشتيت جيشه بصورة تامة وبهذا بدأ الفتح
الاسلامي لهذه البلاد وبدأ حقبة جديدة في تاريخ اسبانيا. لقد قابل الاسبان دخول
الجيش الاسلامي بارتياح وترحيب ظاهرين اذ هم لاقوا الامرين من ظلم وتعسف ملوك القوط
السابقين.. ولم تمض فترة قصيرة إلاّ وكان المسلمون يسيطرون على معظم البلاد
الاسبانية واخترقوا جبال البايرينز إلى جنوب فرنسا إلاّ انهم خسروا معركة بلاط
الشهداء مع شارل مارتل ملك الافرنج وبهذا توقف الزحف الاسلامي إلى قلب اوروبا بسبب
فتنة عمياء لاقتسام الغنائم بين العرب والبربر حيث قتل في تلك المعركة القائد
المسلم عبدالرحمن الغافقي عندما اضطرب الجيش الاسلامي وتقهقر امام ضربات الافرنج
الذين استعادوا الهجوم واستغلوا الفرصة احسن استغلال.
لم تكن سيطرة المسلمين على اسبانيا كاملة تماماً اذ بقيت جيوب صغيرة للاسبان في
الشمال والشمال الغربي في المناطق الجبلية الوعرة كانوا ينفذون منها للهجوم
والتخريب. لم يدر في خلد المسلمين الفاتحين ان هذه الجيوب الصغيرة سوف تكون نواة
لممالك الاسبان مستقبلاً لينطلقوا منها في التهام ممالك الاسلام في اسبانيا الواحدة
تلو الاخرى عندما ضعف المسلمون ولم يكن طموح الاسبان لينتهي إلاّ بطرد المسلمين
بصورة نهائية كما سوف نرى.
على مرّ السنين دخل الكثير من الاسبان في الاسلام وكثر التزاوج بين الفاتحين
والاسبان بحيث نشأ جيل كبير من المولودين الذين يحملون في عروقهم دماء اسبانية
اضافة إلى الدماء العربية والبربرية وقد ارتقى الكثير منهم في مناصب الدولة العالية
مثل ابن حزم الاندلسي الذي اعتنق جده الاسلام.
لقد نشأت تركيبة اجتماعية وعرقية خاصة في الاندلس كانت سبباً في نشوء الفتن
والاضطرابات التي كانت تؤججها سوء الادارة احيانا. فكان هناك العرب والبربر
والاسبان، والعرب انقسموا بدورهم إلى قيسية ويمانية مع ما رافقها من فتن كبيرة وكان
هناك البربر والتنافس التقليدين بينهم وبين العرب وكان الاسبان بقسميهم المسلم
والمسيحي اضافة إلى المهجنين.
كانت هذه التركيبة العرقية والاجتماعية نواة فيما بعد لممالك الطوائف المتناصرة
والتي انتهت بفنائها جميعاً كما سنرى خلال البحث.
الحكم الأموي المباشر في الأندلس
دخلت الاندلس المرحلة الثانية من تاريخها السياسي عندما فوّضت اركان الخلافة على
بني امية في دمشق حيث هزم اخر خلفائهم مروان بن محمد امام جيوش العباسيين في معركة
الزاب سنة 132 هـ.
وولى هائماً على وجهه وكأن الارض لا تسع لهربه بما وسعت ليلقى حتفه على يد
العباسيين ولتبدأ مرحلة دموية كان الامويون وقودها حيث أذاق بنو العباس الامويين حر
الحديد وبأس السيف وجرعوهم مرارة الذل والهوان وشردوهم وراء كل حجر ومدر.. نجا من
تلك المذابح شاب اموي اسمه عبدالرحمن استطاع عبور الفرات وهرب إلى شمال افريقيا،
وبمساعدة اخواله البربر استطاع العبور إلى الاندلس. استطاع عبدالرحمن الملقب
«الداخل» من تأليف القبائل اليمانية التي كانت ناقمة على هيمنة القبائل القيسية
وبمساعدة البربر استطاع ان يخضع الاندلس لسيطرته وان يبايعوه أهل الاندلس اميراً
عليها سنة 138 هـ «755م». حاول الخليفة ابو جعفر المنصور عبثاً اخضاع عبدالرحمن
الداخل حيث استطاع عبدالرحمن هذا (الذي لقبه المنصور بلقب صقر قريش، ان يهزم جيش
المنصور وأن يبرد برؤوس قادة الجيش إلى المنصور لتصله إلى مكة اثناء موسم الحج).
اتخذ عبدالرحمن قرطبة عاصمة له وبدأ ببناء وتوسعة مسجدها الشهير فدخلت قرطبة مرحلة
مزدهرة اصبحت معها فيما بعد محط الانظار ومهد الحضارة.
استمرت السلالة الاموية في حكم الاندلس حيث بلغت اوج حكمها في زمن عبدالرحمن الثالث
الذي دام حكمه لأكثر من خمسين عاماً وامتد سلطانه إلى شمال افريقيا وليقهر الاسبان
وليجعل من اسبانيا قبلة الامصار وعروس اوروبا. إليها تشدّ الرحال لطلب العلم والادب
والفنون وحتى صارت اللغة العربية هي لغة العلم حتى في اوروبا.
بدأ حكم عبدالرحمن الثالث في سنة 300 هـ وانتهى عام 350 هـ واستطاع ان يخلع على
نفسه لقب أمير المؤمنين وسمى نفسه الناصر لدين الله وبهذا اصبحت دار الاسلام يحكمها
ثلاثة خلفاء «الاموي والعباسي والفاطمي» في آن واحد.
وقد توسعت قرطبة في عصره ليبلغ عدد سكانها النصف مليون تقريباً، وقد بدأ الناصر
ببناء مدينة الزهراء التي استمر بناؤها 17 عاما ليجعلها مدينته المفضلة وهي تبعد عن
قرطبة عدة اميال ولكن لم يمهل الزمن مدينة الزهراء هذه طويلا اذ قد دمرت بعد خمسين
سنة تقريباً في فتنة البربر الشهيرة.
توفي الخليفة الناصر سنة 350 هـ فخلفه ولده الحكم الثاني الذي حكم لغاية سنة 366 هـ
والذي اشتهر بحبه للعدل والعلم والحكمة. وقد بلغت جامعة قرطبة في عصره منزلة علمية
عالية جعلتها في مصاف جامعة الازهر في القاهرة والمدرسة النظامية في بغداد.
لما حضرت الحكم الوفاة نظر وهو على فراش الموت إلى ولده الصغيرة نظرة اسى وحزن
وكأنه علم بما سيكتنف ارض الاندلس من فتن مضطربة بعده، كان ولده لا يجاوز احد عشر
عاماً فأوصى له بالخلافة ولقبه «هشام الثاني» وجعل عليه وصياً وزيره الحاجب محمد بن
أبي عامر الملقب بالمنصور والذي لم يكن عند حسن ظن سيده، اذ سرعان ما استحوذ على كل
مراكز القوى وتخلص من منافسيه الواحد تلو الاخر بالقتل والاغتيال وقلص من نفوذ هشام
الثاني الذي جعله لا يغادر القصر وصيّره خليفة بغير سلطان.
جمع المنصور هذا قدرة ادارية كبيرة وكفائة عسكرية عالية يخالطها الكثير من الحنكة
السياسية وميل إلى البطش والتنكيل.. خاض المنصور مع النصارى الاسبان عدة معارك اثبت
فيها نفسه شبحاً مرعباً للاسبان تتحدث به كتبهم لحد الآن وفي احدى المعارك استولى
على كنيسة سنتياغو وجعل الاسرى الاسبان يحملون الاجراس على ظهورهم لمسافة 400 ميلاً
إلى قرطبة..
وبموت الحاجب المنصور سنة 1002م بدأ الهبوط السريع لحكم الاسلام في الاندلس فلم يمض
إلاّ وقت قصير حتى اندلعت فتنة البربر الذين دمروا مدينة الزهراء رائعة المدن في
الاندلس وتعاقب على الخلافة الاموية خلفاء ضعفاء لم يتركوا اثرا يذكر إلاّ شيئاً
ادبيا خالداً ألا وهو غرام الشاعر ابن زيدون «بالولادة» بنت الخليفة المستكفي التي
عافت حياة الحريم وكانت على درجة كبيرة من الادب والعلم فأغرم بها الشاعر ابن زيدون
الذي انتهى امره معها بالفراق فخلدها بقصيدته الرائعة:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا***وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جَوانحُنا***شوقاً إليكم ولا جفت ماقينا
بالأمس كنا وما يخشى تفرقُنا***والآن نحن وما يرجى تلاقينا
يا جنّة الخلد بدلنا بَسلسلِها***والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
ملوك الطوائف
بعد الغاء الخلافة الاموية في قرطبة انفرط عقد دولة الاندلس الاسلامية وعادت
الصراعات والاطماع القديمة إلى الظهور وانقسمت الدولة إلى عدد كبير من الممالك
الصغيرة التي قد لا يتجاوز الواحدة
منها مساحة المدينة الواحدة وما حواليها، وانحسرت عظمة قرطبة وصارت تابعة فيما بعد
لسلطان اشبيلية التي ملكها بنو عاد.. كانت دويلات الطوائف هذه متحاربة فيما بينها
لا يجمعها جامع من دين أو عصبية أو مصلحة مشتركة فكان من المستحيل على مثل هذه
الدويلات الاتحاد ضد خطر الاسبان الزاحف من الشمال ولكن على الرغم من التفكك
الاداري والعسكري الذي اصاب الاندلس فان هذه الفترة كانت من اخصب فترات الحضارة
الاسلامية في تلك الربوع فقد ازدهر الادب والفن وترعرت الفلسفة ونشطت حركة الترجمة
فلابد ان نذكر ان ابن رشد وابن طفيل وعبدالله بن ميمون والمعتمد بن عباد كانوا
ابناء عصر الطوائف.. كان الكثير من ملوكها على قدر كبير من الادب والعلم كالشاعر بن
عباد صاب اشبيلية والمظفر بن افطاس الذي الف كتاباً في التاريخ بخمسين جزءاً سماه
كتاب المظفرى!
على ان ازدهار ممالك الطوائف لم يمنع سقوطها تجاه زحف الاسبان فكانت تلك الممالك
كزهور الربيع الطرية التي هبت عليها الحصباء فصارت كالهشيم.
لقد تناسى اولئك الحكام المتصارعون التحذير القرآني (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب
ريحكم) وغاب عنهم ان من نام لم ينم عنه فكان املهم الوحيد تجاه قوة الاسبان في
الشمال «مملكة قشتالة» هو الاستعانة باخوانهم في الشمال الافريقي.
كانت قد نشأت في المغرب العربي دولة قوية ناشئة من البربر الذين اسلموا حديثاً
وسموا انفسهم بالمرابطين وكان ملكهم يوسف بن تاشفين الذي عبر المضيق المائي الفاصل
لنجدة اخوانّه في الاندلس والحق بالاسبان هزيمة منكرة في معركة زلاقة الشهيرة حيث
لم يعد من جيش الاسبان البالغ 60 الفاً سوى بضع مئات لاذوا بالفرار مع ملكهم
الفرنسو السادس. وتنفست ممالك الطوائف الصعداء ولو لفترة قصيرة.. كانت اشبيلية
يحكمها المعتمد بن عباد الشاعر المشهور والذي دبّ الخلاف بينه وبين يوسف بن تاشفين
فنفاه يوسف هذا إلى المغرب في مدينة اغمات التي مات فيها فقيراً مأسوراً.
وقد رثى نفسه بقصيدة مؤثرة مطلعها..
فيما مضى كنتَ بالأيام مسرورا***فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الاطمارِ عاريةً***يطأن في الدين ما يملكن قطميرا
رجع يوسف بن تاشفين إلى الشمال الافريقي وتوفي هناك فدب النزاع بين سلالته وسلالة
اخرى انشأت لها دولة سميت بدولة الموحدين والذين كانت لهم الغلبة اخيراً واشتهر من
ملوكهم السلطان يعقوب ابو يوسف الذي عبر إلى الاندلس بعد ان سمع بالتهديد الاسباني
الجديد لنصارى قشتالة فاشتبك مع الاسبان في معركة دامية «معركة الاركوس» حيث خسر
الاسبان معظم جيشهم وقد حاصر ابو يعقوب مدينة طليطلة حصاراً طويلاً فخرجت ملكة
الاسبان وبناتها إلى السلطان ترجو منه فك الحصار وقد تحرك قلب ابي يعقوب لهذه
الجرأة وملئت قلبه الاريحية فأرجعها معززة مكرمة ومحملة بالهدايا والنفائس.. وكان
السلطان يعقوب هذا هو الذي بنى المأذنة وبرج المراقبة المسمى الجيرالدا «Giraldo»
والذي مازال يطل شامخاً في سماء اشبيلية. كان هذا السلطان يحترم العلماء والمفكرين
وقد ضم بلاطه ابن رشد وابن طفيل وغيرهم من الاطباء ابن زهر وابن باجة.
عزم السلطان يعقوب على الرحيل إلى الشمال الافريقي حيث قرر مغادرة الاندلس تاركا
طوائفها لقسوة القدر وفتك الاسبان الذين سرعان ما اعادوا تنظيم جيوشهم وزادوا من
عدتهم وعديدهم بينما زاد التناحر والتحارب ممالك الطوائف ضعفاً على ضعف.. ولم يكن
هناك عبر الساحل الافريقي ابو يوسف يعقوب ليهب لنجدتهم فأصبحوا امام مصيرهم
المحتوم. الذين هم سارعوا في تقريب ساعته اذ لا يعدم ان يرى المستطلع لتاريخ هذه
الفترة استعانة المسلمين بالاسبان على اخوانهم المسلمين وبالتالي صار الاسبان
يضربون بعض هذه الممالك ببعضها حتى إذا ابادوا احدها التفتوا إلى الاخرى فتساقطت
هذه الدويلات تباعاً فسقطت قرطبة وبلقيسة ومرسية وحوصرت اشبيلية لمدة 15 شهراً من
قبل الاسبان وكان ممن اشترك في الحصار ابن الاحمر مؤسس دولة بني الاحمر في غرناطة
وسيأتي ذلك اليوم الذي يلتهم الاسبان مملكته ولو بعد حين (ولا يحيق المكر السيء
إلاّ بأهله) واخيراً فتحت اشبيلية ابوابها للاسبان فبدأت المجازر التي يعجز القلم
عن وصفها ولم يستثنوا حتى الاطفال الرضع أو النساء أو الشيوخ.. وقد رثى الشعراء
سقوط اشبيلية رثاء مبكياً كما في هذه الابيات للشاعر موسى بن هارون:
فكم اسارى غدت في القيد موثقةً***تشكو من الذل اقداماً لها حُطما
وكم صريع رضيع ظل مختطفاً***عن امه فهو بالامواج قد فُطِما
يدعو الوليد اباه وهو في شغل***عن الجوابِ بدمع سال وانسجما
فكم ترى والهاً فيهم ووالهةً***لا يرجع الطرف ان حاولته الكلما
في كل حين ترى صرعى مجدّلةً***وآخرين اسارى خطبهم عظما
لابد ان نذكر هنا ان السقوط المتسارع لممالك الطوائف هو نتيجة لمعركة العقاب التي
دارت رحاها في سنة 609 هـ «1212م» بين الاسبان ومن ساندهم من الصليبيين العائدين من
ارض الشام بعد طردهم من قبل صلاح الدين، وبين جيش السلطان محمد بن يعقوب ابي يوسف
الذي عبر إلى الاندلس لتأديب الاسبان إلاّ ان تعسفه وسوء ادارته ادت إلى انفضاض
مسلمي الاندلس عنه عند اول هجوم للاسبان في تلك المعركة فمنهم من هرب ومنهم من انضم
إلى الاسبان.
وكانت هزيمة ساحقة للمسلمين كما واصبحت بالتالي بداية النهاية لدويلات الطوائف كما
ذكرناه آنفاً.. ومرة اخرى تناسى المسلمون تعليم قرآنهم فكانت النتيجة وبالاً عليهم.
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار * ومن يولهم
يومئذ دبره الا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه
جهنّم وبئس المصير)«الانفال».
مملكة غرناطة وسلالة بني الاحمر
في تلك المرحلة الدامية العصيبة التي مرت بها دويلات الطوائف ظهر متنافسان قويان
رئيسيان هما محمد بن الأحمر وابن هود وكان قد بلغ العداء بينهما على اشده بحيث
استعان ابن الاحمر على خصمه بالاسبان وتنازل ابن هود بدوره عن ثلاثين من قلاع
المسلمين للاسبان رغبة في مساندة الاسبان له ضد ابن الاحمر. كان حظ ابن هود اقل من
حظ خصمه اذ استطاع ان يهزمه الاسبان ويموت اخيراً بالسم بينما استطاع ابن الاحمر
هذا الذي اشترك في حصار اشبيلية كما ذكرنا، من بسط سلطانه ودعمه في جنوب الاندلس
فاستولى على غرناطة عاصمة لملكه، التي قد تضخم عدد سكانها فبلغوا 200 الفا بسبب نزح
الهاربين اليها من مجازر الاسبان وكانت تقع في موقع حصين في واد فسيح تحيد به
الجبال وتتوفر فيها المياه العذبة وبسبب جهود الغرناطيين وخبرتهم تحول ذلك الوادي
إلى حدائق غنّاء تنتج الغذاء الوفير مما جعلها موضع حسد من قبل النصارى الاسبان
يتحينون الفرص للايقاع بها وابتلاعها كما سنرى فيما بعد. كان اسلاف ابن الاحمر
ينتمون إلى سلالة بني نصر وهم من الانصار من الخزرج بالذات وكان اسلافه ممن خدموا
السلالة الاموية في غرناطة وابلوا بلاء حسناً في الحروب.. بدأ محمد بن الاحمر ببناء
قصره الحمراء على قمة تل كان موقعاً لحامية عسكرية مسلمة «القصبة» فجلب إلى هذا
الموقع المياه بواسطة قنوات عميقة داخل الارض من الجبال المحيطة واتسع البناء
ليستطيع ضم 000/40 الفاً وقد تعاقب سلاطين بني الاحمر على عمارة قصر الحمراء
وتوسعته والعناية بحدائقه البهيجة حتى صار اعجوبة في الفن المعماري لهذا اليوم
اصبحت غرناطة اخر معقل للاسلام في الاندلس وازدهرت فيها العلوم والفنون والاداب
والفلسفة وكان سلاطينها يشجعون هذه النهضة ويرعونها ويجودون عليها بالغالي
والنفيس.. وازدهرت الزراعة عبر موانئها الجنوبية الواقعة على البحر الابيض المتوسط
ففيها عاش لسان الدين بن الخطيب وقضى ابن خلدون بعض الوقت من عمره في بلاط بني
الاحمر.. واستطاعت غرناطة ان تصمد لقرنين آخرين من الزمان حتى سقوطها سنة 1492م.
سقوط غرناطة
ان صمود غرناطة لهذا الزمن الطويل يرجع لعدة اسباب منها منعة غرناطة وحنكة سلاطين
بني الاحمر السياسية وصراعات الاسبان الداخلية.
كانت ممالك الاسبان الرئيسية هي قشتالة والاراكون «وليون التي ضمت إلى الاراكون»
انّه لمن سوء طالع غرناطة ان يتم التصالح بين قشتالة والاراكون بزواج ملكة قشتالة
ايزابيلا من ملك الاراكون فرديناند وبهذا توحدت ممالك الاسبان وبرزت اسبانيا
المسيحية كدولة فتية قوية كان هدفاً مشتركا بينهما ان يقضي فرديناند وايزابيلا على
غرناطة بصورة نهائية.. كانت ايزابيلا متعصبة لمسيحيها إلى حد الهوس وكانت ترى ان
رسالتها ان تطهر ارض اسبانيا من الكفرة في نظرها وكان يساعدها على ذلك صرامة شديدة
وقلب قاسي لا يلين. اما زوجها فرديناند فهو ضب لا يرى ضيراً ان يكتب عهداً بيمنيه
لتنقضها شماله.
وبينما كان البلاط الاسباني سائراً في طريق الوحدة كان بلاط بني الاحمر مسرحاً
للفتن والدسائس والمؤامرات التي ادت إلى ان يقتل بعضهم البعض.
اقترتب نهاية غرناطة عندما اعتلى السلطان علي ابو الحسن ابن الاحمر عرش غرناطة ـ
كان ابو الحسن شجاعاً مقداماً ولكن يخالط شجاعته مزاج حاد وطبيعة نارية تبلغ درجة
التهور والطيش غير عابي للعواقب ـ كان ابوه قد شخص ضعف غرناطة امام الاسبان فآثر
السلامة ورضي ان يدفع لملك الاسبان ضريبة سنوية لارضائهم.. اما ابو الحسن هذا
فعندما طولب بالضريبة. اجاب الاسبان ان ليس عنده إلاّ السيف واعقب كلامه بالفعل
فهجم على حامية اسبانية قريبة واحتلها وطرد منها الاسبان.
وجد فرديناند وايزابيلا فرصتهم الذهبية لتحقيق حلم اسلافهم بالقضاء على هذا المعقل
الحصين للاسلام.
وقد ساعدهم على ذلك حصول فتنة كبيرة في البلاط الملكي في غرناطة اذ ان ابا الحسن
كان قد تزوج من ابنة عمه عائشة أو «فاطمة» التي ولدت له ابنه ابو عبدالله المقلب
«الصغير» وكان لأبي الحسن زوجة اسبانية جميلة كانت المفضلة عنده حيث ولدت له طفلين
واراد ان يجعل الملك لهما من بعده.. حدثت الفتنة داخل القصر بين أبي عبدالله الصغير
مدفوعاً من امه عائشة وبين ابيه كان للاسبان يد فيها.. ويلف الغموض احداث هذه
الفترة إلاّ ان المعروف ان ابا الحسن ترك غرناطة متجهاً إلى المرية عند اخيه الملقب
«الزغال» لشجاعته وبأسه وهناك توفي ابو الحسن فاندلعت الفتنة بين الزغال وابن اخيه
ابي عبدالله الصغير انتهت بأن يقسم الاثنان المملكة بينهما فيكون للزغال مالقة
والمرية وجنوب غرناطة يكون الباقي لأبي عبدالله.
قرر فرديناند تصفية الخصمين كلاً على حدة وكان ابو عبدالله قد ارتبط بمعاهدة صداقة
مع فرديناند.. فبعث فرديناند جيشاً كبيراً لمحاصرة مالقة لعدة شهور اصابت المجاعة
اهلها ببلاء عظيم واستبسل سكانها في الدفاع عن مدينتهم.. وقد ارسل الزغال جيشاً من
المرية لنجدة مالقة ولكن قطع الطريق عليه قوة عسكرية ارسلها ابو عبدالله.. انتصاراً
للاسبان!! ولم يجد هذا الخسيس ضيراً ان يرسل رسالة تهنئة إلى فرديناند بسقوط مالقة
فيما بعد.
اخيرا استسلمت مالقة للاسبان وبدأت المجازر التي راح ضحيتها الطفل والشيخ والمرأة
على حد سواء.. لقد سجل الاسبان صفحة سوداء اخرى في تاريخهم في مالقة حفظتها كتب
التاريخ.
ابدى الزغال شجاعة نادرة في مناوراته مع الاسبان وحقق انتصارات لا باس بها عليهم
ولكن الكفة رجحت اخيراً لصالحهم فلم يجد بُداً من الاستسلام فأعطي بعض المال ونفي
إلى ارض وهبها له فرديناند.
ولكن بقاءه في الاندلس لم يعد مرغوباً فيه فأمر اخيرا بالرحيل فعبر إلى فاس في
مراكش وهناك اتهم بالخيانة والجبن وصودرت امواله وفقأت عيناه وسجن ثم اخرج من السجن
ليبدأ بالتسول في شوارع فاس وليموت البطل اخيراً كسير القلب مجروح الفؤاد على الرغم
من استماتته في الدفاع عن معقل الاسلام الاخير في الاندلس.
ودارت الايام على أبي عبدالله.. فلم يمض إلاّ وقت قصير حتى طلب فرديناند من أبي
عبدالله تسليم غرناطة فوراً.. اسقط في يد ابي عبدالله ولم يجد الغرناطيون بداً من
الدفاع عن مدينتهم والاستماتة في سبيلها.
وهكذا فقد بدأ حصار غرناطة في خريف سنة 1491م بعد ان سبقه تدمير الحقول والمروج
والبساتين في وديان غرناطة الخضراء استمر الحصار لبضعة شهور كانت تكثر خلاله
المناوشات والمبارزات بين فرسان المسلمين والاسبان كانت الغلبة في معظمها لفرسان
الإسلام حتى خشي فرديناند على فرسانه من الابادة فأمر بايقاف المبارزة بين الطرفين
وضيّق بدلها الحصار حتى تفشت المجاعة في داخل غرناطة.
وهناك بدأ ابو عبدالله الصغير مفاوضاته سراً لتسليم غرناطة وفك الحصار عنها على
شروط عديدة.
وفى صباح يوم الثالث من كانون الثاني 1492 استيقظ الاسبانيون على اطلاقات المدافع
من قصر غرناطة وإذا بهم يرون الصليب منتصباً على قصبته فها قد تم الاستسلام واعطيت
المفاتيح لفرديناند وايزابيلا وبهذا انهزم هلال التوحيد امام صليب الشرك ولا حول
ولا قوة إلاّ بالله.
كانت شروط تسليم غرناطة للاسبان تقضي للمسلمين بحرية الدين واللغة.. كما ان
للمسلمين الحق في المحافظة على اموالهم وتقاليدهم وان تحسم قضاياهم من قبل قضاة
مسلمين وكذلك السماح للمؤذنين بالاذان في أوقات الصلاة. ويُمنع المسيحيون من دخول
بيوت المسلمين من غير اذن.. الخ، لقد استنام الغرناطيون لهذه العهود والمواثيق التي
قطعها الاسبان لهم والتي كانت مخدعة الصبي عن اللبن أو الفطام.. فلم يعرف الاسبان
ابداً انهم حافظوا على عهد سابق ابداً. كان هناك صوت رافض لهذه الشروط لفارس من
فرسان غرناطة الشجعان واسمه موسى الذي خطب في قومه قبل الاستسلام محذراً اياهم من
مغبة الاستنامة لوعود الاسبان ولما لم يجد اذناً صاغية غادر قومه قائلاً: «انّه
يفضل الموت بالسيف على ان يموت صبراً بيد لئام الاسبان أو يُجرع الذل والهوان على
يد الشرك». وعندما خرج موسى من غرناطة اعترضته قوة من فرسان الاسبان فدارت معركة
غير متكافئة قتل فيها عدة منهم وسقط اخيراً من على فرسه مثخناً بالجراح فقاتل بسيفه
قائماً على ركبتيه ولما تكاثر الاسبان عليه ليفتكوا به رمى بنفسه من علو إلى النهر
ولما كان مثقلاً بالدروع غاص موسى إلى قاع النهر ولم يعثر عليه على اثر فضرب هذا
الفارس المثل الأعلى في الاباء والعزة والكرامة والشجاعة.
وقد صدق حدس موسى رحمه الله فلم يمض وقت قصير إلاّ والعهود تنكث الواحد تلو الآخر
من قبل الاسبان حتى لم يبق منها شيء يذكر وإذا بالمرحلة العصيبة الاخرى تمر على
مسلمي الاندلس لتسدل الخاتمة على هذا التاريخ إلى يومنا هذا.
مرحلة ما بعد السقوط
بدأ التعسف والاضطهاد مباشرة بعد سقوط غرناطة وبدأت حملات التنصير الاجباري
للمسلمين. ولكن الاسبان لاحظوا ان هؤلاء غالباً ما كانوا يظهرون المسيحية ويبطنون
الاسلام وبدأت محاكم التفتيش بمحاكمة وحرق من يشتبه فيه التنصير الظاهري فراح
الكثير ضحايا هذه المحاكم التي أمرت بأنشائها الملكة ايزابيلا لتلتهم اليهود
والمسلمين وفيما بعد حتى النصارى الذين يشك في ولائهم المطلق للكنيسة الكاثوليكية
فاقترنت ايزابيلا بمحاكم التفتيش هذه في التاريخ فكانت سنّة سيئة عليها وزرها ووزر
من عمل بها.. ايزابيلا هذه التي سمّاها شكسبير شاعر الانكليز «ملكة ملكات الارض»
وهي نفسها التي يبحث الفاتكان الآن في شأن رفعها إلى مستوى القديسة.. هذه هي التي
كانت سبباً في ابادة شعبين مسلمين، المسلم في الاندلس والهنود الحمر في اميركا التي
عبر اليها كولمبس مبحراً من اشبيلية بأموال الغنائم التي غنمها الاسبان من غرناطة
وبأمر من ايزابيلا وزوجها فرديناند..
في سنة 1502م صدر مرسوم ملكي يقضي بأن يُمنح المسلمون شهرين فقط لا غير لاعتناق
المسيحية أو الطرد النهائي فشهدت ساحات غرناطة احراق 000/80 من الكتب العربية
والتنصير الاجباري للمسلمين من نزلاء حي البيازين المقابل لقصر الحمراء.
وفي سنة 1566م صدر مرسوم ملكي آخر يقضي بمصادرة الكتب العربية ومنع التكلم بالعربية
ومنع الحجاب بالنسبة للمسلمات وغلق الحمامات العامة ومنع الزي الاسلامي والاستعاضة
عنه بالزي الاسباني وتغيير الاسماء العربية إلى الاسبانية.
كان هذا فوق طاقة تحمل المسلمين فاندلعت ثورة عارمة في غرناطة وفي منطقة جبال
إلبشارات التي التجأ اليها الالوف من المسلمين استمرت هذه الثورة لثلاث سنوات
متتالية.. ارتكب فيها الاسبان ابشع الجرائم فاحرقت الكهوف على ساكنيها في جبال
إلبشارات وقتل فيها الاطفال والشيوخ والنساء.. كان مدبر هذه الحملة على هؤلاء
المقهورين البائسين هو (الامير دون جون) الابن اللقيط للامبراطور كارلوس الخامس،
فلم تهز قلب هذا اللقيط انات الاطفال والنساء وهم يقتلون ويحرقون امام ناظريه
بالالوف، فنال هذا اللقيط مكانة بجدارة في التاريخ بين سفاحي ومجرمي البشرية
الجديرين بلعنة الله ولعنة اللاعنين!
تبكي الحنيفية البيضاء من اسف***كما بكى لفراق الالف هيمانُ
على ديار من الاسلام خالية***قد اقفرت ولها بالكفر عمرانُ
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة***حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهر موعظة***ان كنت في سنة فالدهر يقظانُ
تلك المصيبة انست ما تقدمها***ومالها من طوال الدهر نسيانُ
يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً***كأنها في مجال السبق عُقبانُ
وحاملين سيوف الهند مرهقةً***كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعة***لهم بأوطانهم عزٌ وسلطانُ
(ابو البقاء الرندي)
بالغ المسلمون في كتمان دينهم عن الاسبان، وقد اطلق عليهم الاسبان (المورسيكيون) في
النصارى الذين ابطنوا الاسلام فكانت الوفود السرية تتوالى على المسلمين من شمال
افريقيا ناقلة الفتاوى والتشريعات التي تعلمهم كيف يحافظون على دينهم في ظل هذا
الكبت والكتمان.. إلاّ ان ذلك لم يكن ليستمر طويلاً.. ففي سنة 1612م كانت خاتمة
الاسلام في الاندلس حيث اجبر المسلمون على الرحيل ومغادرة البلاد فغادر الكثير منهم
ومات الكثير منهم في الطريق إلى شمال افريقيا وحمل بعضهم مفاتيح بيوتهم في غرناطة
على امل العودة يوماً ما واستقر الكثير منهم في فاس والرباط وغيرها من مدن الشمال
الافريقي.. كانت هذه الهجرة هي الاخيرة وقد قدر عدد النازحين بين نصف مليون
والمليون وبعضهم يصل بالعدد إلى 3 ملايين وهكذا اسدل الستار على شعب مسلم عظيم عمّر
ارض اسبانيا وارسى فيها حضارة عظيمة كان محط انظار العالم في القرون الوسطى.
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل
من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير).
ولم تنج اسبانيا من العدالة الالهية فاذا امبراطوريتها التي امتدت في اوربا
والامريكيتين تنهار سريعاً وتحولت اسبانيا إلى ارض جدباء وسارعت الخطى إلى عصور
الظلام بينما دخلت مثيلاتها الاوربيات في عصور النهضة.. وبقيت اسبانيا تغط في نومها
العميق إلى ان تململت اخيراً في اواخر القرن العشرين بعد ان دخلت واختها البرتغال
السوق الاوربية المشتركة!!
خاتمة
لابد لنا ان نعرج ولو باختصار على الجانب الحضاري لمسلمي الاندلس. فقد ترعرت حضارة
زاهية في ربوع الاندلس كان لسانها العربية ومادتها الاسلام.. وقد شملت هذه الحضارة
مختلف الجوانب كالزراعة والصناعة والتجارة والادب والفن والمعمار والفلسفة وفن
الحروب والفروسية.
فقد انشا المسلمون نظام ري متقن استطاع ان يحي الكثير من ارض الموات وتحولت بسببه
ارض اسبانيا الى مروج خضراء وقد دخل العرب الفاتحون معهم المحاصيل الزراعية التي لم
تكن معروفة في اسبانيا من قبل مثل النخيل والرز وقصب السكر.. كما برعوا في تربية
دود القز وصناعة الانسجة الحريرية.
اما بالنسبة للفن المعماري فنظرة فاحصة إلى قصر الحمراء ومسجد قرطبة وقصر اشبيلية
جديرة ان تثبت ما وصل إليه المسلمون من درجة عالية من الرقي في الفن المعماري والذي
لا يزال محط انظار العالم إلى وقتنا الحاضر.
كما علينا ان لا ننسى التراث الفلسفي الكبير الذي خلفه لنا كبار الفلاسفة المسلمين
مثل ابن رشد الذي كان له الاثر الكبير في نقل تراث الفلسفة اليوناني إلى اوربا عن
طريق الاندلس وقد ذكر برتراند راسل انّه كانت مدرسة فلسفية في اوربا من اتباع ابن
رشد.
وكذلك ابن الطفيل وكتابه الشهير في الفلسفة (قصة حي بن يقظان) وعبد الله بن ميمون
والذي كان من يهود قرطبة الا انّه اثرى التراث الانساني بمؤلفاته التي الفها باللغة
العربية، وابن عربي وفتوحاته المكية..
وقد برع الكثير من المسلمين في مجال الطب كابن زهر التي كانت مؤلفاته تدرس لفترة
طويلة في حواضر اوربا وابن باجة..
ولا نريد ان نبخس النساء الاندلسيات حقهن فقد نبغت منهم الكثير من النساء في الادب
والشعر والفنون كالولادة بنت المستكفي وحسانه التميمية وام العلا وغيرهن كثير.
ولابد ان نذكر هنا فن الفروسية التي برع فيه المسلمون وانتقلت تقاليده إلى داخل
اوربا حتى اصبحت العصور الوسطى عصور الفروسية.. ان الفروسية هذه لم تكن نتاج غابات
الماناي أو تربّت في صقيع دول اسنكندنافيا أو ضباب بريطانيا انها كانت وليدة ابناء
الصحراء العرب المسلمين الذين جلبوا تقاليدها معهم اثناء الفتوحات، وقد تعلمها
الاوربيون منهم عن طريق الاندلس والحروب الصليبية ولكن هيهات ان يكون الشبه بين
الاصل والفرع وبين الابداع والتقليد..
ولا ننسى ايضاً في هذا المجال ما اثرى به الاندلسيون الشعر العربي من شعرهم الذي
يتميز بالرقة والسهولة والعذوبة.
ولابد ان نذكر هنا ان اهل الاندلس اخترعوا الموشحات الاندلسية وهي الشعر المطبوع
بطابع الاندلس ولعل بعض القراء يذكرون موشحات الوزير ابن الخيب المتميزة بشعره
اللطيف..
جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى***يا زمان الوصل بالاندلس
لم يكن وصلك إلاّ حُلُماً***في الكرى أو خلسة المختلس
اذ يقود الدهرُ اشتات المنى***ينقل الخطو على ما يرسمُ
زمراً بين فرادى وثنا***مثل ما يدعو الوفود الموسمُ
وروى النعمان عن ماء السما***كيف يروي مالك عن انس
فكساه الحسنُ ثوباً مُعلما***يزدهي منه بأبهى ملبس
اسباب السقوط
لابد واننا نستطلع تاريخ الاندلس ان ندرس عوامل سقوط هذه الدولة.. لانني اعتقد
جازماً ان دراسة التاريخ ليست قصصاً مجرداً أو لترويج الفكر بقراءة دول الاقدمين
وكأن حاضرنا مقطوع الجذور فان الدول تتشابه في نشوءها وهرمها وسقوطها فلو عرفنا
العلل التي تصيب الدول فلعلنا نستطيع ان نصحح في حاضرنا ما اخطأ فيه الاقدمون في
ماضيهم.
فاي دولة تقوم في التاريخ ولابد لها من عقيدة يؤمن بها افرادها لكي تخلق في نفوسهم
حبها والاستماتة في الدفاع عنها ومن ثم قهر اعدائها وتوسعها.. هذا ما عبر عنه ابن
خلدون في مقدمته بعنوان العصبية التي قد تكون ناشئة عن القبلية أو الدين وههذا ما
نعبر عنه في الوقت الحاضر بالايدلوجية..
فلو اخذنا تاريخ العرب قبل الاسلام لرأينا مثلاً انهم كانوا قبائل مشتتة متحاربة
يأكل قويها ضعيفها تفشت فيه العصبية ولكنها على مستوى القبيلة فكان الفكر القبلي
قادراً ان يجمع القبيلة الواحدة أو حليفاتها ولكنه لم يستطع ان يخلق منها امة إلى
ان جاء الاسلام وجمع العرب تحت راية التوحيد واستطاع ان يبعث في قلوبهم حب هذا
الدين والذب عنه والجهاد في سبيله فخلق منهم امة متآلفة يجمعها هذا الدين.. اي
بالتعبير الحديث.. خلق الاسلام لهم الايديولوجية التي استطاعت ان تجمعهم وتوحد
جهودهم نحو الهدف وهو اعلاء كلمة الله ونشر كلمة التوحيد فكان ان فتح المسلمون
البلاد وقضوا على امبراطورية فارس وشلوا امبراطورية الروم لزمن طويل وكانوا على
ابواب فتح اوربا لولا الخلاف والفشل والتنازع الذي ادى بالتالي إلى اندحارهم وتلك
سنن التاريخ التي تعم المجتمعات والدول والحضارات.
ولكن اصاب المسلمين ما اصاب غيرهم من الامم فضعفت الحمية الدينية في قلوبهم وركنوا
إلى الدنيا وبالتدريج دب الوهن والخلاف والتنازع.
وهكذا نسي المسلمون احكام دينهم وتعاليم قرآنهم وتوصيات نبيهم الواحدة تلو الاخرى..
فتسلط حكام الجور عليهم.. وبالتدريج تحول الجهاد إلى صراع بين الدول والممالك لحفظ
الملك فاختل نظام الدولة وبرزت الفتن في كل مكان وتقاتل المسلمون مع بعضهم البعض
واستعانوا بالمشركين على المسلمين كما رأيناه في الاندلس مثلاً.
انهم بعبارة اخرى.. ذهبت من نفوسهم الحمية على الدين وركنوا إلى طموحاتهم الذاتية
واهدافهم الصغيرة.. ولما لم يكن هناك عصبية اخرى غير الدين تجمعهم.. فقدوا الهدف
وغامت عليهم السبل.
وبينما المسلمون في غفلتهم عن ضعفهم وما يكال لهم.. بدأت الامم الاخرى في الظهور
والصعود وكانت عصبيتها من نوع اخرى (اي ايديولوجيتها بالتعبير الحديث) فالاسبان على
سبيل المثال ظهرت فيهم الروحية القومية مدعومة بالحمية الدينية لتطهير اسبانيا من
المسلمين الكفرة (بزعمهم) مضافاً اليها الطمع في الغنائم والاسلاب فاتفقت ممالك
الاسبان رغم اختلافها.. جمعتهم عصبية الهدف المشترك والمصالح المشتركة فصاروا قوة
كبيرة لم يستطع المسلمون الوقوف في وجهها لانهم فقدوا حيمتهم لدينهم الذي خلق منهم
امة اولاً.. لم يكن كافياً انهم صاموا وصلوا وقرؤا القرآن.. اذ ان العقيدة وحدها
عاجزة عن الصمود إذا لم يكن يساندها الحمية لهذا الدين ولهذا خسر معسكر الامام علي
مثلاً بسبب فشل اهل العراق امام بغي معسكر معاوية.. وسقطت بغداد امام غزو المغول
وخسر المسلمون الاندلس امام الاسبان وسقطت فلسطين بيد اليهود فى عصرنا الحالي.. كل
ذلك لنفس السبب فالايمان والحمية لنصرة الدين هو الذي يخلق القوة لتذليل الصعاب
ويبعث على تفجير الطاقات وتعثر على السبل لرفع الظلم والحيف ويجد الطريق للاخذ
باسباب القوة والمنعة فالمسلمون باختلافاتهم العرقية والقومية والطائفية لا يمكن ان
توحدهم عقيدة اخرى غير عقيدة الدين الذي يبعث في نفوسهم الايمان.. وانا اعني
بالدين.. روح الدين التي تبث العقيدة في النفوس ولا اعني ديناً مؤطراً برأي المدارس
الفقهية المختلفة.
لعل المسلمين بالرجوع إلى الايمان يستطيعون ان ينهضوا ويمنعوا ضياع اندلس اخرى
واخرى بعد ان اضاعوا الكثير والله المستعان على لم الشعث وجمع الكلمة وتأليف القلوب
وما النصر الا من عند الله.