الحياة السياسية للإمام الصدر
من المفارقات المؤلمة أنَّ تبدأ معرفة الغرب بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر
في اليوم نفسه
الذي أقدم فيه النظام العراقي على إعدامه ألا وهو يوم الثامن من نيسان عام
1980. ولم تتعد حدود معرفتهم به ألا كونه قائداً للحركة الإسلامية في
العراق متجاهلين أعماله الفكرية حيث لم تثر عملية استشهاده المأساوية
حفيظتهم ضد النظام العراقي. ويعزى ذلك إلى تأييد السيد الصدر العلني لنظام
أية الله الخميني في إيران الذي طالما مقتوه.
ومما زاد في عدم اكتراث الغرب تجاه عملية إعدام السيد الصدر هو الاضطراب
السياسي الذي أعقب نجاح الثورة الإسلامية في إيران فإسقاط نظام موال للغرب
في إيران، بواسطة حركة إسلامية أصيلة، كان يعني صدمة قوية للغرب وتهديدا
مباشرا لمصالحه في منطقة الخليج، تلك المنطقة التي تحتوي على خزين ضخم من
النفط والتي يعتبرها الغرب من مصالحه الحيوية التي لا تنازع،
والذي يبدو أنَّ النظام الجديد في إيران لم يكن فقط عازما على تهديد هذه
المصالح وإنما على نشر أفكاره الإسلامية ( الأصولية ) في كل المنطقة.
وقد أحس الغرب والأنظمة الموالية له في منطقة الشرق الأوسط بالخطر إزاء ما
أسموه بتصدير الثورة الإسلامية وبدأوا بوضع الخطط لاحتواء هذا الخطر وحبسه
ضمن حدوده في إيران. وقد عدَّوا نداءات الإمام الخميني للشعب العراقي
بالثورة ضد النظام البعثي العلماني الفاسد والاستفادة من تجربة الشعب
الإيراني الثورية، الخطوة الأولى لنشر الإسلام الثوري في المنطقة والتي
ستؤدي في النهاية إلى زعزعة هذه الأنظمة وتغيير نظمها السياسية.
وقد عدَّ النظام البعثي في العراق مساندة السـيد الصدر للإمام الخميني
ونداءاته، تهديدا مباشرا له وللأمن القومي، وتعامل معه بحزم وشدة حيث اعتقل
الإلاف وأعدام المئات بدون محاكمة أو بعد محاكمة صورية في أحسن الأحوال.
وقد شخص نظام البعث السيد الصدر كقائد روحي لحركة سياسية إسلامية تتعاظم
يوما بعد آخر منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وأنَّه رأس الحربة للقوى
المعارضة للحكومة. وكما يراه بعضهم فأنَّه خميني المستقبل في العراق. وعليه
كانت مخاوف نظام البعث في محلها وكـان على هذا النظام لكي يستمر في الحكم
إنَّ يتخلص من هذا التهديد المباشر لوجوده. وكان إعدام الصدر رد فعل
طبيعياً لنظام يصارع من أجل البقاء.
وكان نظام البعث في العراق، حاله كحال بقية الأنظمة المتهرئة في منطقة
الشرق الأوسط، يعاني من عدة نقاط ضعف وعوامل عدم الاستقرار، ومن ضمن عوامل
الأزمة وعدم الاستقرار هذه :
أولاً
: كان النظام مرتبطاً فكرياً وعقائدياً بحركة التيار القومي العربي التي
كانت في بداية السبعينات تعاني من كساد في سوقها بسبب إفلاسها السياسي اثر
الهزيمة المنكرة التي منيت بها أنظمة الحكم القومية سياسياً وعسكرياً أمام
إسرائيل في حرب حزيران عام 1967م وبالخصوص نظام جمال عبد الناصر في مصر
الذي أحبط آمال الجماهير العربية بوعوده في تحرير فلسطين.[1]
أضافة الى ذلك
أجحف دعاة القومية العربية في العراق في معاملتهم تجاه اكبر أقلية غير
عربية في العراق إلا وهم الأكراد التي ولّدت بالتالي، استياء وعداوة تجاه
نظام الحكم وأفكاره التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الطويلة بين
الأكراد ونظام الحكم في أوائل السبعينات.[2]
ثانياً
: تنحصر القيادة السياسية للنظام بعدد قليل من العوائل التي تنتمي إلى
الأقلية العربية السنية في العراق[3]
والتي بدورها كانت مشغولة في حرب ضروس فيما بينها للسيطرة على القيادة،
الأمر الذي أدى إلى انعزالها تماماً ليس عن الأغلبية الشيعية فحسب وإنما عن
معظم طائفتهم السنية، وكذلك ولّد استياء بين بقية القوى القومية والعلمانية
في البلاد وبالتالي لم ينجحوا في كسب ودّ الشعب بل زادت عزلتهم عنه.
ثالثاً
: لكي يستطيع نظام، كهذا البقاء والصمود ضد خصومه السياسيين الذين يتزايدون
قوة وعدداً كان عليه إنَّ يتبنى سياسة البطش والإرهاب والسيطرة على
الجماهير بواسطة أساليب القسر ودوائر الاستخبارات والأمن التي استعملت
أساليب غاية في القسوة لإبقاء النظام مسيطراً على الحياة السياسية في
البلاد.
وقد تعرضت خمس
القوة العاملة الفعالة في البلد ( ما يقارب 4/3 مليون نسمة ) إلى نوع من
التحقيق أو الاعتقال مصحوبا بشكل أو بآخر من أشكال التعذيب أو العنف خلال
سنة 1980.[4]
وقد طغت قساوة الكبت السياسي والاضطهاد على سياسات النظام الاقتصادية
الطموحة التي نجمت عن زيادة مدخول الواردات من النفط التي ارتفعت في منتصف
السبعينيات وأدت إلى تحسن ملحوظ في مستوى معيشة الفرد العراقي.
بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 أصبح الإسلام يمثل بديلاً
سياسياً لنظام حزب البعث، أضف إلى ذلك إنَّ مبادئه وتعاليمه لم تكن غريبة
عن الجماهير بعكس مبادئ وأفكار البعث المستوردة مثل التأميم والاشتراكية،
كما إنَّ هذه المبادئ الإسلامية سبق لها وأنَّ مدت جذورها عبر القرون في
قلوب المسلمين، وتطلعاتهم. وعندما برزت الثورة الإسلامية بشعاراتها وتصميم
قيادتها على تحرير فلسطين ليس كأرض عربية وإنما كأرضٍ مقدسة للإسلام
والمسلمين يجب تحريرها من رجس أيّ محتل كافر استقبلتها الجماهير بقبول
كامل، عكس ما كانت تطبل له القوى القومية العربية التي لم تجد آذاناً صاغية
لشعاراتها.
وأكثر من ذلك كانت قيادة الثورة الإسلامية في إيران قد عقدت العزم على
التخلص من كل مظاهر الهيمنة الأجنبية سواء أكانت شرقية أم غربية تحت شعار "
لا شرقية ولا غربية " ذلك الشعار الذي وجد صداه لدى جماهير المنطقة التي
عاشت تحت نير الاستعمار الغربي لعقود طويلة، ولا زالت تشهد مظاهر تدخل هذه
القوى في شؤونها الداخلية.
وبالنظر لأهمية المنطقة الإستراتيجية، وضخامة مخزونها النفطي، والنزاع مع
إسرائيل تحولت المنطقة إلى بؤرة توتر وصراع بين الشرق والغرب، وخضعت دول
المنطقة لهذه القوة أو تلك.
وعليه كانت مسائل الاستقلال، والسيادة الوطنية، والتحرر من هيمنة القوى
الشرقية، والغربية من الأهداف والمطالب الملحة لكل شعوب المنطقة.
لم تكن الشعارات
الإسلامية التي وجدت صداها لدى جماهير المنطقة هي الخطر الذي كان يهدد
أنظمة المنطقة، وإنما تلك التنظيمات التي احتضنت تلك الشعارات والمفاهيم.
فمنذ مطلع القرن العشرين كانت القوى السياسية الإسلامية وفي جميع أقطار
الشرق الأوسط تنشئ لها مؤسسات سياسية، وتطور برامجها لتحقيق هدفها الأساسي
المنشود، إلا وهو أقامة دولة تستند على أحكام وتعاليم الإسلام. ويظهر إنَّ
تنظيمات كهذه هي التي مهدت الطريق لانتصار الثورة في إيران[5]
وكانت الجهاز التنفيذي للإسلام السياسي وذراعه القوي في الساحة. وبناءً على
ذلك كان تطبيق ما حدث في إيران في أيّ بلد آخر في المنطقة يبدو عمليا
اعتمادا على هذه التنظيمات، وبدا جلياً أنَّ ما كانت قيادة الثورة
الإسلامية تدعو له بتصدير الثورة الإسلامية إلى دول المنطقة لا يتعدى إلا
تحفيز هذه التنظيمات ومؤازرتها. وهذا ما حدث بالفعل في العراق، فالتنظيمات
الإسلامية كانت متواجدة بالفعل هناك قبل مجيء نظام البعث وقبل انتصار
الثورة الإسلامية في إيران وكان السيد محمد باقر الصدر احد المؤسسين
الأوائل لحزب إسلامي وسياسي، إلا وهو " حزب الدعوة الإسلامية " وكان
مهندساً لنشاطات سياسية ضمن مؤسسة سياسية منظمة ذات برنامج سياسي محدد
لتحقيق هدفها في أقامة حكومة إسلامية ليس في العراق فحسب، وإنما في العالم
الإسلامي اجمع. ولهذا السبب فمن الضروري إنَّ نسلط الضوء على حياة السيد
الصدر منذ البداية وحتى استشهاده رحمه الله.
احدث الانقلاب العسكري العراقي في عام 1958 تحولاً جذرياً في الحياة
السياسية العراقية، وأثر في مسيرتها لسنين طويلة قادمة، وتغييره التركيبة
الاجتماعية والسياسية للشعب العراقي ككل. في ذلك الانقلاب أزيحت العائلة
المالكة التي نصبها الانكليز على الشعب العراقي في عام 1921 من سدة الحكم
وصفيت جسدياً بعض رجالات حكومتها وحلت محلها مجموعة من ضباط الجيش الذين
قادوا الانقلاب وعلى رأسهم الزعيم عبد الكريم قاسم.
وقد شكل هؤلاء
الضباط حكومتهم من شخصيات سياسية معروفة ومتباينة في المشارب والاتجاهات،
وقامت في الأشهر الأولى بانجازات أكسبت رئيسها الزعيم قاسم محبة وود
الجماهير، ومن هذه المنجزات الانسحاب من حلف بغداد وإغلاق القواعد
البريطانية في العراق.[6]
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مشاعر الكره والاستياء لدى الشعب العراقي تجاه
النظام البائد والاستعمار البريطاني، لأدركنا مدى الحب، والتقدير الذي كان
يكنّهٌ الشعب نحو الزعيم قاسم ! الذي تحول إلى بطل وطني بين عشية وضحاها.
ورغبة من الزعيم قاسم في الاستحواذ على مقاليد الحكم وتسيير دفة القيادة
السياسية حسب مآربه ولزيادة شعبيته استعمل الشيوعيين الذين كانوا من أكثر
الأحزاب تنظيما وقتذاك، لتصفية زملائه الضباط في القيادة (الانقلابية)
والذين كانوا يناصرون الحركة القومية العربية.
وفي خضم هذه
الأحداث وما تبعها من محاولة بعض الضباط القوميين القيام بمحاولة انقلاب ضد
الزعيم قاسم دارت معارك في معظم مدن العراق الرئيسة وأهمها الموصل، وكركوك
سفكت فيها دماء كثيرة كانت الغلبة فيها للشيوعيين الذين استغلوا تأييد
الزعيم قاسم لهم بزيادة رصيدهم الشعبي وتحريك الجماهير وفق مآربهم.[7]
وقد وجدت
المؤسسة الدينية الشيعية، التي عرفت بعزوفها عن السياسة طيلة الحقبـة التي
أعقبت ثـورة العشرين، أمام تحد سافر من قوًى سياسية ملحدة في المجتمـع[8]
لا يمكن للقيادة الدينية إنَّ تتغاضى عن تصرفاتها وتتركها تعبث على هواها،
وبعكسه فسوف تنجح هذه القوى في إماتة الروح الدينية لدى أفراد الشعب،
وبالفعل فقد دقت بعض المؤشرات نواقيس الخطر على هذه الظاهرة الخطيرة.
أولها
: كان إصدار الحكومة قانون الأحوال المدنية ( الشخصية ) الجديد والذي كان
بعض بنوده مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية وخصوصاً تلك البنود التي تعالج
الإرث وحقوق المرأة، ولم يثر القانون أيّ ردود فعل شعبية ضده مما يؤكد أنَّ
عموم الشعب كان يتقبل الموجة العلمانية وحملات مهاجمة الدين والمتدينين
التي كان يرعاها النظام، ولم تفلح إدانات العلماء العلنية عن ثني حكومة
قاسم عن رأيها ومضت قدما في قانونها المخالف للإسلام.
ثانياً
: استمرت الدعاية الشيوعية في هجومها على المؤسسة الدينية واصفة إياها
بالرجعية، كما شنت حملتها الإعلامية على الفكر الديني باعتباره عقبة كأداء
في طريق النهضة، وتطور الشعوب. وقد وجدت هذه الهجمات الدعائية آذاناً صاغية
لها بين الجماهير ووجدت المؤسسة الدينية نفسها عاجزة في وقف تغلغل
الشيوعيون في المدن المقدسة كالنجف الأشرف وكربلاء والكاظمية، والأنكى من
ذلك إنَّ الشيوعيين قد نجحوا حتى في كسب وتنظيم أبناء عوائل معروفة بتدينها
ومحافظتها على التقاليد الدينية. وكان لزاما على المرجعية المتمثلة بالمرجع
الأكبر أية الله السيد محسن الحكيم إنَّ يواجه هذا التحدي الذي كان يهدد
ليس فقط الشيعة وبقية المسلمين في العراق وإنما الشيعة في كل مكان حيث
يعتبر العراق مركزا لمدارس إسلامية رئيسية على مر القرون، ومقر المرجع
الأعلى للمسلمين الشيعة وأضرحة الكثير من أئمة المسلمين، وبالأخص أئمة أهل
البيت عليهم السلام منهم. حيث تحتضن مدن النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء
أضرحة ستة من الأئمة الاثنى عشر للشيعة الأمامية، وأي محاولة لأضعاف الروح
الإسلامية في هذا القطر سيضعف الشيعة في كل مكان.
وفي خضم الأحداث
المضطربة والعصيبة كانت هناك مجموعتان من العلماء تتقاسم المؤسسة الدينية.
الأولى التي تضم علماء الدين التقليديين الذين كانوا لا يحبذون التدخل في
السياسة ويفضلون أبقاء الحوزة العلمية بمنأى عن العملية السياسية
وتعقيداتها، بينما تدعو الجماعة الأخرى إلى الانخراط في الحياة السياسية مع
بقية أفراد الشعب. وقد نظمت هذه المجموعة نفسها تحت اسم "جماعة العلماء" في
النجف الأشرف.[9]
وقد وضعوا برنامجاً سياسياً للتصدي للنزعة العلمانية المعادية للروح
الإسلامية.
كان السيد الصدر
عالماً ناشطاً شاباً وقتها ولم يكن يعتبر كعضو مسؤول في الجماعة التي كانت
تضم علماء كباراً ومجتهدين معروفين.[10]
ولكن تأثيره على
الجماعة تعدى عمره ودرجته العلمية. فقد كان يعتبر عالماً نابغا استطاع أنَّ
يحصل على درجة الاجتهاد وهو لا يزال في منتصف العشرينات من عمره، وهو أمر
يندر حصوله في الحوزات العلمية. واستطاع تمرير تأثيره هذا على "الجماعة" من
خلال دور خاله الشيخ مرتضى آل ياسين الذي كان يحتل مركزاً مرموقاً في
الجماعة.[11]
وحسب ما ذكره السيد طالب الرفاعي كان سبب تشكيل هذه الجامعة هو التصدي للمد
الشيوعي ودرء خطره عن الإسلام. ومن مناوراتهم السياسية أنَّهم تجنبوا
الهجوم على عبد الكريم قاسم لإدراكهم شعبيته الواسعة لدى الجماهير، وعليه
فقد اظهروا تضامنهم ومساندتهم مع قاسم في منشوراتهم وإعلاناتهم وحصروا
هجومهم على الشيوعيين.
ورداً للجميل
سمح لهم النظام بأستعمال الإذاعة الحكومية في أحاديث أسبوعية كان السيد
الصدر يشرف على كتابتها ويقرأها السيد هادي الحكيم.[12]
وعلى أيّة حال فشهر العسل هذا لم يدم طويلاً فقد تأزمت الأمور ثانية بين
المرجعية والزعيم قاسم عندما اصدر المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم فتواه
المشهورة بتحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي ووصفه الشيوعية بأنها كفر
والحاد.
وقد أحرجت هذه
الفتوى التحالف القائم بين الزعيم والشيوعيين، مما اضطر الزعيم على أثرها
الى فصم علاقته مع الشيوعيين للأبد. وقد حاول الزعيم قاسم إنَّ يقوم بزيارة
السيد الحكيم عدة مرات، ولكن الأخير رفض مقابلته إلا بعد إنَّ يلغي الأول
قانون الأحوال المدنية (الشخصية) سيء الصيت.[13]
وقد خطت " جماعة
العلماء " خطوة أخرى إلى الأمام، عندما حصلت من النظام على رخصة إصدار نشرة
شهرية لمدة سنتين باسم " الأضواء"، بهدف الرد على الهجمات الإعلامية ضد
الإسلام والمسلمين، والتي كان يقوم بها العلمانيون والمناهضون للدين
وأحكامه، وحسب ما أورده السيد طالب الرفاعي كان أية الله السيد الحكيم هو
الـذي يحدد دور هذه النشرة، وحيث أنَّه لم يكن مقبولاً وقتها إنَّ يتدخل (
المرجع الأعلى ) في أمور سياسية محضة ويشرف على إصدار مطبوعة سياسية فقد
ارتأى إنَّ تضطلع بهذا الدور جماعة العلماء نفسها[14]
وقد تحمّلَ السيد الصدر مسؤولية كتابة المقال الافتتاحي فيها.[15]
واستفاد السيد الصدر من هذه الفرصة الثمينة لكي يعرض من خلالها برنامجه
السياسي للحركة الإسلامية التي كانت تحبوا ببطء آنذاك. واكتشفت فيها كفاءته
ومقدرته على التأثير من خلال الكتابات السياسية.
وخلال تلك
الحقبة اصدر دراسته الأولى الموسعة " فلسفتنا " في عام 1959م. وهو كتاب
يقدم نقداً معرفياً لمدارس الفكر الشيوعي والمادي،[16]
ويبين العيوب والثغرات في القواعد الأساسية للمادية الجدلية. كما تضمن
الكتاب دراسة عن أهم المدارس الفلسفية منذ عهد " أفلاطون" وحاول أثبات عدم
ترابط المدرسة الفلسفية المادية وافتقارها إلى الدقة في تفسير تطور المعرفة
الإنسانية وحقيقة الطبيعة المحيطة بالإنسان وأوضح إنَّ النزعة الحديثة في
المدرسة المادية، وهي المادة الجدلية، تعاني من نواقص كثيرة وكبيرة لا
تؤهلها لأن تكون الحقيقة النهائية عن الإنسان. وعليه فإنَّ الشيوعية لا
يمكن أنَّ تكون حلاً ناجحاً لمشاكل المجتمع عندما تكون فريضتها الأساسية
خاطئة.
وكان عمله الكبير الثاني كتابه " اقتصادنا " في عام 1961م وهو محاولة نقدية
لنظريتي الاقتصاد الشيوعي والرأسمالي، وتعريف مقارن بالنظرية الإسلامية في
الاقتصاد، ويحاول من خلالها التأكيد على إنَّ الإسلام يمتلك الأفكار والأسس
التي يمكن بواسطتها معالجة الكثير من المشاكل الاقتصادية في عصرنا الراهن.
احد المآخذ التي يشترك فيها المحدثون والعلمانيون والشيوعيون أنَّ الإسلام
لا يملك الحلول الناجحة للمشاكل المتزايدة في عصرنا الراهن، وأنَّه مجرد
حزمة من المعتقدات لإنقاذ الفرد من العقاب في يوم الحساب ولا ناقة له ولا
جمل في إنقاذ المجتمع في الوقت الحاضر.
وبالعكس من ذلك كان أهم ما بينه السيد الصدر في كتابه إنَّ الإسلام كان
مهتماً برفاهية الفرد في حياته.
والحقيقة تقال إنَّ أهم انجاز فكري للسيد الصدر هو تدوينه لقانون اقتصادي
إسلامي في الفقه. وفي الواقع لم يسبقه احد في أكمال هذا الانجاز. ويبين في
الختام أنَّ الإسلام نظام اقتصادي متكامل يستطيع ومن خلال حكومة إسلامية أو
جهاز إسلامي سياسي إنَّ ينظم تنظيماً متكاملاً لحياة الفرد الاقتصادية
وأفضل ما يخدم متطلباته الاجتماعية.
وفي الواقع لم تكن محاولات إصدار مجلة "الأضواء" ومساهمات السيد الصدر فيها
ونشاطات جماعة العلماء وكتب السيد الصدر الفلسفية والاقتصادية، إلا محاولة
لنقل حلبة الصراع مع القوى العلمانية والملحدة من الشعارات وأبواق الدعاية
إلى السجال الفكري والفلسفي والعقيدي، كما إنَّ السيد الصدر لم يهدف فقط
ومن خلال كتاباته إلى أظهار مثالب ونواقص الأفكار غير الإسلامية ومدارسها
الفلسفية، ولكنه اثبت بقوة أنَّ الإسلام كانت لديه الأجوبة الشافية لمشاكل
العصر والمجتمع الحديث، وعليه كان الهدف السياسي الذي توخاه السيد الصدر هو
لفت أنظار الجماهير وتوعيتها إلى حقيقة لم تكن واضحة في أعينهم، إلا وهي
إنَّ الإسلام ليس كما يصوره أعداؤه، فإنَّه قادر على دفع المجتمع إلى
الإمام بنزع لباس الجهل والتخلف عنه. وألقى باللائمة لحالة التخلف التي
تعيشها المجتمعات الإسلامية على القوى التي نبذت الإسلام وارتمت في أحضان
الاستعمار، وعلى فترة السبات الطويلة التي تعيشها الأمة الإسلامية تحت نير
الاستعمار.
ولم يكتف السيد
الصدر وزملاؤه بالجبهتين الفكرية والإعلامية وإنما فتحوا جبهة ثالثة في
طريق مواجهتهم للقوى العلمانية بأنشاء " حزب الدعوة الإسلامية ".[17]
وقد ارتأت جماعة من المفكرين الإسلاميين في عام 1957م أنَّه من الضرورة
بمكان إنَّ يحشد المسلمون طاقاتهم في منظمة يكون لها صوتها في الحياة
السياسية وتؤثر على المستقبل السياسي للعراق ككل.[18]
وعلى أيّ حال فالعمل الفعلي للحزب لم يبدأ إلا في عام 1959م وبعد انقلاب
1958م وتأسيس الجمهورية العراقية. كما إنَّ مجريات الأحداث التي أعقبت
الثورة قد جعلت من الحزب ضرورة ملحة سواء أكان للعلماء أو لجماهير المسلمين
الذين يعيشون الهم السياسي ليستطيعوا من خلاله مواجهة التحديات السياسية
التي تعصف بالمجتمع فما دامت القوى العلمانية قد دعمت وجودها الميداني
الفاعل في المجتمع بتنظيماتها السياسية فكان لزاماً على النشطاء
الإسلاميين، ولكي يكونوا أهلاً لتحدي هؤلاء الخصوم إنَّ يسلكوا مسلكهم
وينظموا أنفسهم بتنظيمات مشابهة لتنظيماتهم مهتدين بأقوال الفقيه الإمام
السيد عبد الحسين شرف " لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال ". وقد عقد
الاجتماع الأول للحزب في كربلاء وكان السيد الصدر احد المشاركين فيه. ومنذ
ذلك الحين وطبقا لمصادر حزب الدعوة، لعب السيد الصدر دوراً بارزاً ومهماً
في صياغة تركيبة الحزب وكتابة منهاجه السياسي.[19]
وبعدها أصبح فقيه الحزب وحتى مسألة أطلاق اسم الحزب " الدعوة " كانت من
اختياره هو.[20]
كان هدف الحزب هو تنظيم وتعبئة المسلمين الملتزمين في الحزب على أمل
السيطرة على مقاليد الحكم وإقامة حكومة إسلامية وكانت الخطة السياسية
لتحقيق هذا الهدف تتوزع على أربع مراحل :
1.
تثقيف المنتظمين بالحزب بالمبادئ الفكرية.
2.
النضال السياسي ضد النظام الجائر في ذلك الوقت.
3.
أقامة الحكومة الإسلامية.
4.
تطبيق الأحكام الإسلامية وتصدير
مفاهيم الثورة الإسلامية إلى بقية أرجاء العالم.[21]
ويعـتقد إنَّ هـذه الخـطة الطموحة كـانت من بنـات أفكار السـيد الصـدر نفسه
وقد ارتـأى العمـل بسـريـة تـامـة في المرحـلة الأولى لتحـاشي أية أعمـال
قسـرية مـن جـانـب الحكومة، وعليـه فقـد تـم تنـظيم الحـزب بخـلايـا هرمية
عنقودية بحيث لا يؤدي اكتشـاف أيّة خلية إلى اكتشـاف خلايـا أخـرى. و
أرتوئي كذلك تشكيل فروع للحزب في أقطار إسلامية أخرى غير العراق، وبالفعل
تشكلت بعض الفروع للحزب في الخليج، ولبنان، ولكنه لم ينجح في هذا المسعى في
إيران. ومع انقضاء عقد الستينات كان السيد الصدر يمثل الأنموذج الأمثل
للفكر السياسي الإسلامي، وخاصة للحركة الإسلامية في العالم العربي الشيعي.
ويعتبر العلماء المسلمين البارزين أمثال السيد محمد حسين فضل الله والشيخ
محمد مهدي شمس الدين في لبنان والشيخ عارف البصري والسيد مهدي الحكيم في
العراق والشيخ على الكوراني والشيخ محمد مهدي الآصفي في الكويت والسيد
مرتضى العسكري في إيران من ورثة فكر السيد الصدر. وغدت كتبه وبرامجه في
العمل السياسي من المصادر المهمة في أدبيات الحركات الإسلامية الأصولية في
الشرق الأوسط.
بما إنَّ
السيد الصدر كان يُعدَّ من المجتهدين الأساسيين في الحوزة العلمية في النجف
مع دراية فائقة في حقلي الفقه وأصوله، فقد نصحه بعض أساتذته بالعدول عن
دوره السياسي في حزب الدعوة، وكتاباته في مجلة " الأضواء " لكي يستطيع إنَّ
يهيئ نفسه ليكون مرجعا أعلى للشيعة في المستقبل.[22]
ويبدو إنَّ الضغط بهذا الخصوص قد انصب عليه من المرجع الراحل السيد محسن
الحكيم كما أنَّ أطرافاً عديدة في المجتمع قد وجهت انتقادات كثيرة لدور
السيد الصدر السياسي وتورطه بالمنظمات السياسية.
فقد قام أشخاص
عديدون بضمنهم حسين الصافي[23]
بحملات خبيثة واسعة لثني الصدر عن ممارساته السياسية بدعوى أنَّها كانت تضر
الحوزة العلمية ورفعوا شكوى بهذا الخصوص إلى السيد الحكيم نفسه[24]
كما انضمت شلة من جماعة العلماء إلى هذه الحملة وأعربوا عن عدم رضاهم لدور
السيد الصدر.[25]
وكانت مقالات
السيد الصدر الافتتاحية في دورية "الأضواء" من أكثر الطروحات المثيرة للجدل
حيث إنَّ هذه المقالات التي كانت تحمل افتتاحية باسم "رسالتنا" تحمل دوماً
مغزًى سياسياً. فقد بدأت تساؤلات أعداء السيد الصدر تنطلق من ناحية فيما
أذا كانت هذه الطروحات السياسية تمثل وجهة نظر جماعة العلماء ككل أم تمثل
رأي السيد الصدر نفسه. وقد ضغط السيد الحكيم من خلال ابنه السيد مهدي على
السيد الصدر للتنحي عن دوره كفقيه لحزب الدعوة وعن كتابة افتتاحيته في
"الأضواء".[26]
ويبدو إنَّ عاملاً آخر كان أكثر أهمية هو الذي اجبر السيد الصدر على
الاستقالة ألا وهو مستقبله القيادي في المرجعية والحوزة، حيث أنَّ نوعية
المناخ الديني في الحوزة لا يسمح بتسلم المرجعية العليا لمجتهد ذو نشاط
سياسي، ناهيك عن إنَّ يكون عضواً في حزب سياسي. فعادة ينتخب المرجع من بين
مجموعة من كبار المجتهدين الذين لهم الريادة في علمي الفقه وأصوله. وكان
للسيد الصدر جدارته ومكانته في تدريس هذين العلمين في الحوزة ولسنين طويلة،
وكذلك من خلال إصدار بحوثه وأفكاره الفقهية. وحيث إنَّ طريقة الصعود في سلم
المرجعية تعتمد بدرجة كبيرة على مباركة المجتهدين والمدرسين الكبار في
الحوزة العلمية. وعليه فإنَّ أمل السيد الصدر في الارتقاء إلى هذا الدرجة
الرفيعة في الحوزة العلمية سيكون ضعيفاً جداً في حالة استمراره في عمله
الحزبي المكشوف ونشاطه السياسي المعلن.
ومن ذلك
الحين انصرف السيد الصدر إلى حياة الحوزة الرتيبة مخففاً بذلك نشاطه
السياسي والحركي المكشوف التي قد تضر بمكانته المرجعية في المستقبل، إلى
الحد الذي جعله يرجئ إصدار كتابه "مجتمعنا" الذي طال انتظاره لأنَّه وحسب
مصادر مقربة أليه، لم يجد أنَّ الوقت كان سانحاً لمثل هكذا عمل.[27]
وعلى الرغم من ذلك وحسب مصادر حزب الدعوة فإنَّ السيد الصدر أبقى على قنوات
الاتصال بينه وبين الحزب مفتوحة وبالخصوص مع احد تلامذته.[28]
وكما يعقب السيد فضل الله على ذلك بان السيد الصدر كان يبدي نصائحه ومشورته
لمقربيه وزملائه حول شؤون الحزب وافتتاحية "الأضواء".[29]
ونتيجة لذلك تحول جهد السيد الصدر للتطوير في الحوزة نفسها، وأدرك
ضرورة تعديل مناهج الدراسة. فحوزة النجف على سبيل المثال، كانت ومنذ مائة
وخمسين عاما تركز على الفقه وأصول الفقه وذلك بسبب بروز مفكرين عظام في
هذين الموضوعين في النجف مثل مرتضى الانصاري، الخراساني والنائيني، وحيث
إنَّ الاجتهاد يرتكز على التمكن من موضوعي الفقه وأصوله بينما تعد المواضيع
الإسلامية الباقية قليلة الأهمية وليست ذات قيمة، وبناءً على ذلك كان
أساتذة الحوزة يركزون في تدريسهم على هذين الموضوعين فقط.
كذلك لم
يشعر السيد الصدر بالرضا بالوضع الدراسي الأكاديمي في الحوزة وأبدى امتعاضه
من انعدام مسؤولية الطلبة تجاه دروسهم وعدم انتظام دوامهم، واقترح أنَّ
ينجح الطالب في دروسه المقررة ويجتاز امتحانا بهذا الشأن قبل إنَّ يعطى لقب
عالم دين.[30]
واقترح بإعداد كتب مقررة للطلاب للدراسات الحوزوية ليست على نمط الكتب
الكلاسيكية الحالية التي لم تكن مخصصة للتدريس بأي حال من الأحوال، وإنما
هي نتاجات فكرية لمؤلفيها ليس إلا. وطبقاً لرأي السيد الصدر فإنَّ الكتب
المقررة يجب إنَّ يتوخى فيها مقدار استيعاب الطالب وفهمه للموضوع بطريقة
متسلسلة من أسس وقواعد الموضوع إلى آخر ما استجد فيه. ولم تقتصر مقترحات
السيد الصدر على الكتب المقررة وإنما تعدتها إلى طريقة الدراسة واستحداث
آلية الامتحانات النوعية. فقد اقترح السيد الصدر إنَّ يؤخذ بنظام المقررات
على طريقة الجامعات الغربية حيث يجتاز الطالب المواضيع المطلوبة منه من
خلال نجاحه في امتحانات تحريريةً وليست شفويةً حسب ماجرت عليه العادة في
الحوزة العلمية.
ومحاولة منه
لتطبيق مقترحاته تلك شارك السيد الصدر وبصورة فعالة في إنشاء كلية أصول
الدين في بغداد عام 1964 ووضع مناهجها بنفسه وكتب ثلاثة كتب مقررة لها في
مجالات علوم القرآن، وأصول الفقه، والاقتصاد الإسلامي، لكي تدرس في السنتين
الدراسيتين الأولى والثانية.[31]
فمحاولاته لتطبيق إصلاحاته تلك على الحوزة قد واجهت مقاومة شديدة من كل
الطلبة والمؤسسة الدينية. فعلى سبيل المثال كان المرجع السابق السيد محسن
الحكيم معروفاً بمعارضته لتأسيس كلية الفقه في النجف التي قام بإنشائها
الراحل الشيخ محمد رضا المظفر. كما إنَّ السيد الصدر لم يكن يزمع بتطبيق
إصلاحاته في الحوزة على الدراسات المتقدمة أو ما يسمى بالبحث الخارج، وإنما
كان يطمح بتطبيقها على المراحل الابتدائية من الحوزة (مرحلة المقدمات
والسطوح). ويبدو إنَّ السيد الصدر كان يشارك آراء الأغلبية من مراجع
ومجتهدي الشيعة بأنَّ مستوى التدريس في البحث الخارج كان متقدماً ويمثل
أفضل طريقة للتحصيل العلمي على أفضل المستويات.
يمكن إنَّ تُعزى قلة نشاط السيد الصدر السياسي في منتصف الستينات إلى درجة
الاستقرار المعتدلة في النظام السياسي في العراق. فقد تم تصفية الزعيم عبد
الكريم قاسم اثر الانقلاب الدموي الذي جرى ضده في 8 شباط عام 1963م والذي
أشعلت شرارته معارك دموية بين القوى التي كانت تسيطر على الشارع العراقي
وقتذاك (الشيوعيون والقوميون العرب) ولم يكن لدى الانقلابيين الجدد الذين
كان يترأسهم عبد السلام عارف والبعثيين،
أيُّ وازع للرحمة واستطاعوا تصفية خصومهم من الشارع والحكومة بقسوة وبطش
شديدين. وبعد تسعة اشهر من ذلك التأريخ تخلص عارف من رفاقه البعثيين وطردهم
من سدة الحكم.
وقد استطاع عارف أنَّ يوظف استياء وسخط الشعب العراقي تجاه البعثيين وطرقهم
التعسفية لصالح نظامه، فضلاً عن ذلك فقد حاول ألا يصطنع معارضة جديدة
لنظامه.
وعلى ضوء ذلك
حاول النظام العسكري أنَّ يحسن علاقاته مع الشيعة وقياداتهم بالرغم من أنَّ
نسبتهم في الحكومة الجديدة كانت ضئيلة جدا، وبقي السنة وهم الأقلية في
المجتمع العراقي مسيطرين على مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية. فضلاً عن
ذلك حاول عارف، قائد الانقلاب، أنَّ يحصل على مباركة المؤسسة الدينية
الشيعية لنظام حكمه فقام بزيارة آية الله الحكيم، ولكن الأخير خيَّب آماله
بالتعاون وإعطاء الشرعية، على الرغم من إنَّ النظام العارفي الجديد قدم
خدمة جليلة من خلال تصفية عدوين لدودين للمرجعية الدينية والحركة الإسلامية
ألا وهما البعثيون والشيوعيون. وعلى أيّ حال فقد بقيت العلاقات بين السيد
الحكيم والأخوين (عبد السلام وعبد الرحمن عارف) ودية نوعاً ما طيلة فترة
حكمهما.[32]
تعدُّ المدة المحصورة بين سنتي 1964-1968 الفترة الذهبية في عمر الحركة
الإسلامية الشيعية الحديثة
[33]
حيث خلت من عمليات البطش والإرهاب التي كانت تمارسها الحكومات المتعاقبة
على الحكم في العراق وازداد أعضاء حزب الدعوة، وخصوصاً في الجامعات وبين
طبقة المفكرين والمثقفين وحسب مصادر حزب الدعوة كانت توزع أكثر من 1500
نسخة من صحيفة الحزب السرية، "صوت الدعوة"، على الأعضاء والمناصرين في
جامعة بغداد وحدها. وكان الطلبة من الحركة الإسلامية يقومون بتنظيم مسيرات
تدعى "مواكب الطلبة" في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام معبرين عن
تضامنهم للحزب. وفي الوقت نفسه وسع السيد الحكيم من نفوذه بزيادة نسبة
الطلبة العرب المسجلين في الحوزة سنوياً.
في هذا
البيئة ذات الهدوء السياسي النسبي، أرادت المرجعية بوضع خطة لتأسيس جامعة
الكوفة التي يؤمل إنَّ تقوم بتأهيل الشباب الشيعة في الخبرات العلمية
والدينية لإعدادهم في إدارة الشؤون المدنية والسياسية للمجتمع بعد تخرجهم.
كما وتم فتح مراكز دينية ومكتبات عامة في العديد من المدن العراقية والتي
اشرف عليها ممثلون ووكلاء عن المرجعية الدينية. وقام جماعة من علماء الدين
في الكاظمية (إحدى ضواحي العاصمة بغداد) بتأسيس جماعة لهم تماثل جماعة
علماء النجف أطلقوا عليها علماء بغداد والكاظمية[34]
.في
تلك الفترة كان السيد الصدر يعمل على جبهتين، في الأولى كان يهيء نفسه
للمرجعية على المستقبل البعيد،[35]
بينما على الجبهة الثانية كان تأثيره يتزايد على مرجعية السيد الحكيم وعلى
مجمل قرارات حزب الدعوة. وفي تلك الفترة بدأ السيد الصدر بتركيز موقعه
العلمي في الحوزة من خلال إعطاء دروس منتظمة على الطريقة التقليدية في
الفقه والأصول لطلبة البحث الخارج.[36]
وخلال تلك الفترة تخرج الكثير من طلبته من مختلف البلدان الذين روجوا
لمكانة السيد الصدر العلمية في مناطقهم. وهذا ما وسع من شهرة السيد الصدر
وازدادت شعبيته بصورة أكبر من ذي قبل في الأوساط الدينية والأمة بصورة
عامة، وهو أمر ضروري لتولي الصفة المرجعية إذا أراد لفتواه بالانتشار
والتأثير على الوسط الشيعي. كما وأصبح السيد الصدر من أبرز مستشاري السيد
الحكيم في الشؤون السياسية والاجتماعية مع العلم أنَّه محسوب على مرجعية
السيد الخوئي. ففي كثير من الأحيان كان السيد الصدر هو الذي يكتب مسودة
خطابات وبيانات السيد الحكيم حول الأحداث السياسية والتي كان يزمع إلقاءها
أحد وكلائه في تجمعات جماهيرية بإسمه.[37]
آذنت عودة البعثيين إلى السلطة في 17 تموز عام 1968 إلى تصعيد المواجهة
بينهم وبين القيادة الشيعية إلى مستويات أعلى. ويتذكر حكام البعث جيدا
الموقف السلبي الذي اتخذه تجاههم قادة الحركة الإسلامية الشيعية عندما تمت
تصفيتهم من قبل النظام العارفي اعقب انقلاب الثامن من شباط عام 1963 م.
فحتى السيد الحكيم الذي أصدر فتواه المشهورة بحق الشيوعية، والتي وصفها
بأنها كفر والحاد وحرم على المسلمين بالانضمام للحزب الشيوعي، لم يعطِ حزب
البعث أيّ دعم يذكر عندما قادوا بتصفية كوادر وأعضاء الحزب الشيوعي عقب
الانقلاب. وفي تلك الحقبة كان حزب الدعوة من أكثر الأحزاب السياسية
انتشاراُ وخاصة إبان حكم عبد الرحمن عارف، وبعد سقوط حكم البعثيين الأول في
عام 1963.
وعند عودتهم في
سنة 1968 كان البعثيين يواجهون زعيمين شعبيين يفوقونهم مكانةً وتأثيراً في
أوساط الشعب العراقي، وهما السيد محسن الحكيم والملا مصطفى البرزاني، الأول
الذي يتزعم الشيعة والآخر الأكراد في شمال العراق. وأحس قادة النظام البعثي
الجديد إنَّ استقرار حكمهم يعتمد بالكامل قوة الإرادة والصمود أمام هذين
الثقلين المركزيين. وبما أنَّ البرزاني كان ميالاً للدخول في حوار مع
النظام الحاكم لإيجاد حل للمشكلة الكردية، فقد استطاع حزب البعث ليس فقط
بالتفاوض معه وإنما مع بقية الأحزاب اليسارية، وبضمنها الحزب الشيوعي
والقوميين العرب، واتفقوا على تشكيل جبهة وطنية سيرها النظام وفق إرادته،
ولكن لم ترغب أيّ من القيادات الدينية الشيعية والسنية، ولا أيّ من
المحسوبين على مرجعية السيد الحكيم بالدخول بحوار مع نظام البعث. وقد حاول
النظام وفي أكثر من مرة الطلب من السيد مهدي الحكيم (الذي كان يمثل والده
السيد محسن الحكيم في بغداد منذ عام 1964) القيام بزيارة هدفها إعلامي
لمقابلة الرئيس احمد حسن البكر ولكن طلبهم يواجه بالرفض في كل مرة.[38]
عندها لجأ النظام البعثي إلى حملة واسعة لحل المؤسسات الدينية الشيعية منها
والسنية على السواء. والواقع إنَّ النظام لم يكن له خيار آخر حيال هذه
المؤسسات فهو على طرف نقيض منها. نظراً لتنامي القوة التنظيمية والاتساع
الجماهيري للحركات الدينية في القطر على حساب ما يدعو له النظام السياسي من
فكر قومي وعلماني. فأذا أريد لإيديولوجية النظام وفكرة السياسي من الصمود
ولحكمه في البقاء فما عليه إلا أن يحشر الطرف الديني المقابل في زاوية ضيقة
أو الإجهاز عليه في النهاية.
ولجأ النظام
البعثي في البداية إلى إتباع سياسات راديكالية ذات تأييد جماهيري يطرب لها
الشعب ويستحسنها، إلا وهي العداء للصهيونية وتحرير فلسطين ومناهضة الأنظمة
التي وافقت على الحل السلمي مع إسرائيل، وإعدام الجواسيس، وتمتين العلاقات
مع دول المعسكر الشرقي والدول عدم الانحياز، وتقديم يد العون للحركات
الثورية في العالم الثالث، وتأميم امتيازات شركات النفط الغربية في العراق،
وغيرها من السياسات البراقة ذات الصدى الإعلامي المقبول في الدول العربية.[39]
و
خطا النظام في تلك الفترة أيضاً خطواته الأولى في طريقه لتقليص نفوذ
المؤسسة الدينية الشيعية وذلك بإغلاقه المدارس الدينية وبالتحديد مدارس
"الجوادين" الابتدائية منها والثانوية، وكذلك إغلاق كلية أصول الدين،
ومصادر الأرضي والأموال المخصصة لبناء جامعة الكوفة، ومنع إصدار مجلة
"رسالة الإسلام" (وهي المجلة الدينية الوحيدة في القطر التي سمحت بها
الرقابة الأمنية للأنظمة العسكرية)، ومنع مواكب الطلبة (وهي الشعائر
الدينية التي كان يقوم بها طلبة الجامعات في ذكرى استشهاد الإمام الحسين
عليه السلام)، وتسفير مئات الطلبة غير العراقيين الذين كانوا يدرسون في
الحوزات العلمية، وتطبيق قانون الخدمة العسكرية الإلزامية على طلبة
العراقيين في الحوزة العلمية الدينية والذين كانوا معفوين منها سابقاً.
وبالرغم من
شمولية الإجراءات إلا أنها كانت محدودة الهدف ألا وهو التحديد من نشاط
وفعاليات الحركة الإسلامية الشيعية التي يظهر من أنَّ قيادتها قد أخذت على
حين غرة، حيث إنَّ ردود فعلها كانت غير منسقة وغير منسجمة مع طبيعة
الإجراءات التي اتخذتها حكومة البعث. بعض ردود الفعل هذه كان الاجتماع الذي
دعت إليه جماعة العلماء (التي تمثل جُل النشطاء والحركيين السياسيين في
المؤسسة الدينية) والذي عقد في بغداد - العاصمة، للتشاور حول الإجراءات
والهجمة السافرة التي تشنها الحكومة[40]،
وكان من جملة قراراته هو دعوة السيد الحكيم السفر إلى بغداد وتعبئة
الجماهير ضد إجراءات حكومة البعث.
وبالفعل ألتزم
السيد الحكيم بالمبادرة وأنتقل للأقامة في الكاظمية حيث بدأ باستقبال
جماهير المريدين الذين عبروا عن تأييدهم وولائهم له. بعدها توجه السيد
الصدر إلى لبنان، حيث يرأس ابن عمه وشقيق زوجته، السيد موسى الصدر، المجلس
الإسلامي الشيعي الأعلى واستعمل مكتبه لتنظيم الاحتجاجات الشعبية من الخارج
ضد النظام العراقي كما بعث السيد موسى الصدر برقيات إلى رؤساء الحكومات
والمؤسسات الإسلامية يحثهم فيها على التدخل ضد المضايقات التي تتعرض لها
القيادة الدينية في النجف ولكن الرد عليها كان مخيبا ًللآمال ولم تتخذ أيّ
إجراءات مناسبة،[41]
سوى برقيات التضامن والتعاطف من جمال عبد الناصر وملك السعودية الملك فيصل
والرئيس اليمني الإيرواني،
ورئيس الجماعة الإسلامية في باكستان، أبو الأعلى المودودي.
ونتيجة لذلك عاد
السيد الصدر إلى العراق بالرغم من الخطر المتزايد باعتقاله نتيجة نشاطه
المضاد للحكومة في لبنان. وقد اقترح حزب الدعوة من طرفه على السيد محسن
الحكيم تنظيم المظاهرات وإغلاق السوق الرئيس في بغداد. وقد رفض السيد
الحكيم الخطة بأكملها على أساس أنَّ الحزب لم يكن مهيئاً بعد لعمل مثل هذا
مع الأخذ بالحسبان الإجراءات القمعية السريعة التي قد يقدم عليها النظام.[42]
وبمجرد رجوع السيد الصدر إلى العراق قام، وبالتنسيق مع جماعة العلماء
بالكاظمية وبغداد علماء النجف بتنظيم تجمع جماهيري حاشد في مرقد الإمام علي
(ع) في النجف تضامنا مع السيد الحكيم وتنديداً بتصرفات النظام ضده .
وقد ألقى السيد
مهدي الحكيم كلمة نيابة عن والده السيد محسن الحكيم كانت بالواقع من بُنات
أفكار السيد الصدر الذي كتب مسودتها بنفسه.[43]
وطبقا لما أورده
السيد مرتضى العسكري كان من المقرر القيام بنشاط أوسع من ذلك وهو تنظيم
مظاهرة شعبية تضامناً مع السيد الحكيم في إحدى ضواحي بغداد.[44]
ولكن حكومة البعث بادرت، وقبل تنفيذ المخطط بإعلانها عن كشف محاولة لقلب
نظام الحكم بواسطة ضباط كبار، ورجال أعمال شيعة مرتبطين بإيران والغرب
(الولايات المتحدة وإسرائيل) واتهام السيد مهدي الحكيم بأنَّه كان الرأس المدبر
للانقلاب.[45]
لم تفلح حكومة البعث باغتيال السيد مهدي الحكيم سياسياً بهذه المكيدة فحسب،
وإنما وضعت كل الحركة الإسلامية الشيعية في موضع الدفاع عن نفسها وشتت
قوتها الجماهيرية.
وعلى ضوء ذلك تم
تهريب السيد مهدي الحكيم خارج العراق وسافر السيد مرتضى العسكري إلى لبنان،
وانسحب السيد محسن الحكيم إلى النجف وتوفي بعد اشهر قليلة وتسلم بعده
مقاليد المرجعية السيد الخوئي الذي رفض التورط بأي نشاط سياسي ضد حكومة
البعث.[46]
في خضم تلك الأجواء الصعبة والمضطربة التي كانت تواجه المؤسسة الدينية بدأ
السيد الصدر بإلقاء محاضرات عن دور أئمة أهل البيت عليهم السلام وتعاليمهم
مع الأنظمة الجائرة في أزمانهم.
وقد بين أنَّ الأئمة
(عليهم السلام)
كلهم كانت
لديهم خطة سياسية عظيمة وموحدة إلا وهي تهيئة الأرضية لإقامة حكم عادل
وبذلك يحفظون الإسلام ويصونون نقاءه على الرغم من أنَّ أدوارهم كانت
متباينة من إمام إلى آخر. خلاصة ما كان يريده السيد الصدر هو تذكير طلاب
الحوزة بان الإنسان يجب إنَّ يعي ويتفهم الظروف التأريخية التي يعيشها
ويتصرف طبقاً لما
تمليه عليهم الأحداث والأزمات.
فتوجد
هنالك
آليات
عديدة يستطيع المرء فيها أنَّ يحقق هدفه
من خلالها
وقد لا يكون
الاصطدام المباشر والمفتوح مع الحكام دائماً وبالضرورة لمصلحة الإسلام، وقد
تكون الأساليب السلمية في مقاومة القهر والاستبداد من أحسن الخيارات
السياسية
في مواجهة الأحداث والتعامل مع الظروف
حيث يتوقع منها
ألا تؤدي إلى تهديد مباشر للحركة الإسلامية و قاعدتها.
فبعض
مثلاً
أنَّ بعض
الأئمة المعصومين (ع)
كالإمام السجاد
عليه السلام أتخذ من وسيلة الدعاء لتصحيح الفساد الذي يعاني منه المجتمع،
وآخرين
لجأوا إلى
تدريس
الفقه والسنة المطهرة
(كالإمامين
الباقر والصادق عليهما السلام)
بينما تقبل
الإمام
الرضا عليه السلام ولاية العهد في زمن المأمون،
وكل ذلك لأجل
التغلب على القهر الاستبدادي الذي يتعرض له الشيعة. ومضى السيد الصدر أبعد
من ذلك عندما
طرح فكرة تجدد
النبوات السماوية المنزلة من قبل الباري عز وجل على الأنبياء
حسب ظروفهم
التأريخية. وقد
نشرت
هذه المحاضرات في كتاب تحت عنوان "أهل البيت، تنوع الأدوار،
ووحدة هدف".
وألقى السيد الصدر
محاضرات أخرى
لمعالجة حالة الحرمان
والكبت
السياسي.
فمن زاوية
كان السيد الصدر يركز فيها على قوة إرادة الإنسان المؤمن كأداة وحيدة
لاستمرارية الرسالة المحمدية وبناء الإسلام،
وحث
على عدم
الانكسار
النفسي
والخنوع بوجه المآسي العنيفة، حيث إنَّ الصعاب المختلفة
التي تمر بحياة
الأمة والإنسان
هي محصلة طبيعة
للصراع التأريخي العادل.
وفي كل المراحل
التأريخية سوف يكون
البقاء
للأصلح في نهاية
المطاف،
وهذا
النجاح
يعتمد بالدرجة الأساس على مدى تفاني الإنسان المؤمن وقدرته على الاستمرار
بمواجهة
الصعاب.
وذكر أخوته الشيعة بمآسي
الأكراد
في شمال
العراق
وكيف يواجهون مصاعب ومحن
في
غاية القسوة
والضراوة،
وشدد على مدِّ يد العون
والمساعدة إليهم
بكل طريقة ووسيلة ممكنة.
وإنَّ المصاعب والمحن التي يعانيها المسلمون كلهم يجب أنَّ
تعامل
كمحنة واحدة يحس ويتألم لها الجميع. وقد
نشرت هذه
المحاضرات تحت
عنوان
"المحنة".[47]
ما إنَّ رحل
المرجع الشيعي
الأعلى
السيد محسن الحكيم حتى كثفت حكومة البعث من مساعيها في التقليل من نفوذ
الحوزة
والمرجعية
في النجف الأشرف
وذلك عن
طريق تسفير الطلبة الأجانب من القطر (معظم طلبة الحوزة كانوا من الأجانب)،
ومراقبة
الطلبة العراقيين فيها، الأمر الذي أدى إلى وقوع الحوزة في حالة من
الاضطراب والفوضى. عندها قام السيد الصدر بالضغط على الطلبة الأجانب الذين
يحملون تأشيرات دخول غير منتهية،
وإصدار فتوى يأمرهم
بالبقاء
في العراق
ومقاومة
ضغوطات
الحكومة بأي
وسيلة ممكنة،
وأقنع السيد الخوئي باستصدار حكم (فتوى) إلى الطلبة بالبقاء في النجف
وإكمال دراستهم.[48]
ويبدو إنَّ حكومة البعث لم تكن راغبة وقتها بالاصطدام
المرجعية
الشيعية الجديدة
المتمثلة
بالسيد الخوئي
وآثرت تأجيل قرارها بترحيل الطلبة الإجانب. وحسب وجهة نظر القيادة البعثية
أنَّ الإمام الخوئي لم يكمل بناء قاعدته الشعبية بعد والاصطدام به في وقت
مبكر كهذا سيجعل منه بطلاً بين عشية وضحاها.
ولكن النظام
البعثي
بدأ
عمليات
البطش والتنكيل
ضد حزب الدعوة
واعتقل بعض الشخصيات المشتبه بانتمائهم
للحزب، وفي
عام 1972 حكم عليهم
بالسجن
لمدد تتراوح بين
السنة والخمس سنين[49]،
بينما استشهد صاحب الدخيل الملقب بـ (أبو عصام) نتيجة التعذيب الشديد عام
1973،
والذي كان مسؤولاً
عن تنظيم مواكب الطلبة التي
كانت تنظم في
عاشوراء.[50]
ويعتقد
إنَّ الشهيد صاحب الدخيل كان
كذلك
المسؤول
عن
حزب
الدعوة في العاصمة بغداد.[51]
ولم تتوقف حملات التنكيل هذه، فبعد سنة من
هذا التأريخ
اعتقل النظام سبعة وعشرين عضواً من أعضاء حزب الدعوة بينهم علماء دين
بارزين حكم على خمسة منهم بالإعدام.[52]
(يعتقد بأنهم كانوا يشغلون مناصب رفيعة في السلم الحزبي للدعوة). وقد أحدث
إعدام هؤلاء الخمسة (ثلاثة منهم كانوا علماء دين) موجة عارمة من الاستنكار
والغضب وخصوصاً بين أوساط المؤسسة الدينية (بضمنهم السادة الصدر والخوئي
والخميني).[53]
وقال مقربين للسيد الصدر أنَّه من شدة حزنه وأساه أصيب بإنهيار نفسي مؤقت
لمدة من الزمن عندما وصله خبر الإعدام.[54]
وكخطوة منه لتحاشي فتح مسلسل إعدامات أخرى بين علماء الحوزة أصدر السيد
الصدر فتواه القاضية بتحريم انتساب الطلبة في الحوزة العلمية إلى أيّ حزب
سياسي، ويشمل ضمناً حزب الدعوة،
[55]
وفي أواخر تلك السنة اعتقلت أجهزة الأمن السيد الصدر واقتادته إلى بغداد
للتحقيق معه ولكنه أطلق سراحه وبسرعة.[56]
في الحقبة التي
أعقبت وفاة السيد الحكيم وتقلد السيد الخوئي مقام المرجع الأعلى للشيعة كان
السيد الصدر لا يزال مرجعاً ثانوياً في الحوزة ولكنه أصبح يشار إليه
بالبنان على كونه الخليفة المرتقب للسيد الخوئي.[57]
فالمرجعية بحد ذاتها تعد حملاً ثقيلاً على المجتهدين الذين يرغبون تحمل
مسؤلياتها، وكان على السيد الصدر في ذلك الوقت إكمال دورة كاملة في الحوزة
في مادتي الفقه والأصول. وبطبيعة الحال كانت مهام المرجعية والتدريس في
الحوزة تأخذ معظم ساعات نهار المجتهد، وقد ولدت بدورها ضغطاً كبيراً على
السيد الصدر الذي يخصص جل وقته للأمور السياسية. فضلاً عن وقته الذي يقضيه
في تدريس الفقه والأصول، والذي استمر لعدة سنوات وبصورة منتظمة، كان عليه،
وكأي مرجع، إنَّ يخصص وقتاً لاستقبال العامة من الناس في مكتبه الخاص ويجيب
عن أسئلتهم المتعلقة بالشؤون الدينية والحياتية، ووقتاً آخر للإجابة عن
الرسائل التي ترده. ومن المهام الأخرى للمرجع هو توزيع الحقوق الشرعية
التي ترده من المقلدين على الوجهات الشرعية ومنها النشاطات التي تخدم
الإسلام وأهدافه.
وكان على السيد الصدر إنَّ يرسل ممثلين عنه من العلماء إلى المناطق
والمساجد التي تحتاج إلى خدمات دينية. وحيث إنَّ مقلدي السيد الصدر اقل
عدداً من أولئك الذين يقلدون الإمام الخوئي فقد كانت المسؤولية الملقاة على
عاتقه اخف مما على المرجع الأعلى. فمقلدي السيد الصدر انحصر بالمثقفين
وطلبة الجامعات وأصحاب الدخل المتوسط ومعظمهم من العراقيين وبالخصوص
الحركيين الإسلاميين الناشطين في التحرك السياسي وجلهم من أعضاء حزب
الدعوة.
وبما إنَّ
المقلِّد يتعين عليه إنَّ يتبع آراء المقلَّد فيما يخص الفرائض الدينية
والأحكام الإسلامية المتعلقة نواحي الحياة جميعها، فبترتب على المرجع إنَّ
يصدر رسالته العملية ليتمكن مقلدوه من مراجعتها. وقد دون السيد الصدر آراءه
الفقهية في الأحكام الشرعية كحاشية (تعليقه) على الرسالة العملية السيد
الحكيم، "منهاج الصالحين".[58]
في وقتها كانت
معظم كتابات السيد الصدر في الفقه حصيلة محاضراته في الحوزة.[59]
وقد جمعت هذه المحاضرات في الفقه في كتاب تحت عنوان، "بحوث في شرح العروة
الوثقى" وعدّت ككتاب يحدد آراءه الفقهية ومستوى اجتهاده مقارنة بالمراجع
الباقين. وفي الأصول أصدر السيد الصدر آراءه في هذا الحقل الفقهي تحت عنوان
"دراسات في علم الأصول".[60]
وكلا الكتابين قدم السيد الصدر آراءه حول استنباط الأحكام الشرعية وأبرز
اجتهاداته الفقهية في هذين العلمين.[61]
ولاحظ السيد
الصدر إنَّ معظم الرسائل العملية للمراجع قد كتبت بطريقة يصعب على العوام
فهمها، رغم أنَّ هذه الرسائل كتبت بالدرجة الأساس لهم، ولكن أستعمل فيها
لغة كلاسيكية بحتة مملوءة بالمصطلحات الفقهية التي يصعب فهمها من قبل
القارئ الغير مطلع على تلك المفاهيم والمصطلحات الحوزوية ناهيك عن الأخذ
بمعانيها وتطبيقاتها على واقع الحياة العامة. بعض الفتاوى والآراء يرجع
عهدها إلى ألف سنة مضت وجلها تعالج مسائل تخص تلك الأيام الغابرة ولا دخل
لها بقضايا العصر الراهن. وقد ارتأى السيد الصدر أنَّ يكتب رسالته العملية
بشكل يلبي طموحات الناس في هذا العصر الراهن ويتفهم احتياجاتهم المعاصرة.
وظهرت (الفتاوى الواضحة) بشكل مميز عما سبقته من الرسائل العملية لبقية
المراجع ولقيت استحسان وإقبال الشباب والمثقفين من الشيعة والسنة على
السواء عليها، وخصوصاً فيما يتصل بسهولة أسلوبها غير المتكلف وشرحها
المستفيض للفتاوى وطريقة عرضها للمصطلحات الفقهية، ومعالجتها للمشاكل
ومحاكاتها للقضايا المعاصرة التي تتصل بحياة المؤمن.[62]
وفوق ذلك كله
اقترح السيد الصدر أنَّ يعاد النظر بالتصنيف المتبع لمواضيع الفقه والذي
تقسمه الدراسات الفقهية التقليدية إلى صنفين هما العبادات والمعاملات.[63]
وقد علل السيد الصدر أنَّ نظاماً مستقطباً وعاماً كهذا من شأنَّه إنَّ يجبر
المجتهد على غض الطرف عن فهم بعض التشريعات السماوية، أو إنَّ يدرج البعض
الآخر منها في حقل غير مناسب ليس إلا موافقةً للتصنيف المتبع في الدراسات
الحوزوية.[64]
وعلى ضوء هذا الأسلوب المقترح، دعا السيد الصدر في (الفتاواى الواضحة) إلى
تقسيم الحقول الفقهية التشريعية أربعة أبواب (أو
تصنيفات)
:
1. العبادات:
التي تتضمن الأعمال العبادية والتي تستوجب نية الفرد المؤمن لها وتشمل
الصلاة والصوم والحج.
2. الأموال:
وتشمل المسائل المتعلقة بالأموال العامة وأملاك الدولة ومصادر الدخل العامة
كالزكاة والخمس (بالرغم من كونها نوع من أنواع العبادة) والتصرف في الأموال
الخاصة.
3. السلوك الخاص:
ويشمل الأحكام التي تتعلق بالأسرة مثل الزواج والطلاق والإرث.
4. السلوك العام.[65]
وتشمل الأمور السياسية والاجتماعية العامة والتي يدخل فيها
أيضاً إعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد لان هذه الأعمال
تستدعي مشاركة ومساهمة عامة المسلمين.
ولم تسنح الفرصة للسيد الصدر بإصدار كل أجزاء الفتاوى الواضحة الأربعة،
ولكن تمكن من إكمال وإصدار الجزء الأول من فتاواه (العبادات) سنة 1976، ومن
المحتمل إنَّ يكون السبب هو المدة المضطربة التي أعقبت ذلك التأريخ والتي
توجت بإحداث الثورة الإسلامية الإيرانية واستشهاده رحمه الله تعالى.
ومن الملاحظ
أنَّ السيد الصدر قد أتخذ في (فتاواه الواضحة) اتجاهاً قد يعتبر أكثر
تحفظاً فيما يخص منهجيته لإستنباط الأحكام الشرعية، حيث صرح أنَّ المصادر
المعتبرة والوحيدة لاستنباط الأحكام الشرعية في أمور العبادات هي القرآن
والسنة النبوية فقط. إما المصدران الآخران -العقل والإجماع - فلا يعدّهما
من المصادر التي يصلح إعتمادها في استنباط أحكام الخاصة بالعبادات ما لم
يسندها القرآن والسنة.[66]
وحال وقت فراغه
من كتابة الجزء الأول من (الفتاوى الواضحة) كان السيد الصدر منهمكاً مع احد
طلبته[67]
بإكمال عمله الفلسفي في نظرية المعرفة، لينقض ما كتبه في إصدارة الفلسفي
الأول، " فلسفتنا". فقد توصل إلى رأي مفاده إنَّ نظرية المعرفة لأرسطو
تشوبها نقاط ضعف كثيرة إلى درجة لا يمكن اعتبارها أحدى طرق الإثبات التي
يعتمد فيها في العلوم الحديثة. فقد كانت نظرية المعرفة بقيت متوافقة مع
الاتجاه الاستنباطي منذ زمن أرسطو وحتى عصر الثورة العلمية الحديث، حيث لم
يستطع المنطق الارسطي إنَّ يلبي التطورات العلمية الحديثة. ولكن الاتجاه
العلمي الحديث قام على الإتجاه الاستقرائي التجريبي، وأنَّ نتائج التجربة
العملية والقواعد الرياضية هي القواعد الوحيدة المسلمّ بها لدى الفلاسفة
الوضعيين والفلاسفة الجدليين الماديين في القرنين التاسع عشر
والعشرين.
وفي كتابه "
فلسفتنا " اعتمد السيد الصدر على نظرية الاستنباط الارسطي في نظرية المعرفة
لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى وتفنيد الفكر المادي الذي ينكر وجود أيّ
شيء وراء التجربة. ولكن في كتابه الجديد (الأسس المنطقية) حاول السيد الصدر
إنَّ يستخدم الاستقراء الذي تقوم عليه العلوم الحديثة، وقد أوصلته محاولته
إلى إبداع نظرية (المذهب الذاتي) في الاستقراء كأساس للمعرفة الإنسانية في
الفلسفة والبحث العلمي التجريبي على حد سواء. ويعتبر كتابه هذا "الأسس
المنطقية للاستقراء" من مفاخر إنجازات السيد الصدر الفلسفية إبداعاً.[68]
حتى إنَّ السيد الصدر صرح بنفسه بقيمة الكتاب العالية وكان تواقاً لطبعه
باللغات الأوروبية.[69]
وعندما سُئل عن سبب كتابة هذا الإنجاز الفلسفي، أجاب السيد الصدر بتصريحه
المشهور عنه: "يجب إنَّ ينتهي عصر الاستعارة من الغرب ولنبدأ بتصدير
أنتاجنا (الفكري) إليه".
ينتقد السيد الصدر في "الأسس المنطقية" الأسس التي اعتمدتها الفلسفة
الإسلامية، في انحصار نظرية المعرفة فيها بالمنطق الاستنباطي الأرسطي،
والتي سبق له أن دافع عنها في كتابه السابق "فلسفتنا". وقد توصل إلى
استنتاج مفاده إنَّ المنطق الارسطي والمنهج الاستنباطي في نظرية المعرفة
يعانيان من نقاط ضعف كثيرة، ولهذا السبب طور السيد الصدر مفاهيمه المتعلقة
بالإدراك والمعرفة بشكل يعتمد أكثر على معايير الفلسفة التجريبية، ويعلل
ذلك بصلاحية الاستقراء كمنهج فلسفي لمعرفة كلا العالمين (الغيب والشهادة)
على السواء.
مع حلول عام
1977 أكمل السيد الصدر كتابه "دروس في علم الأصول" وهو آخر عمل كبير ومهم
له. ويتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء أعدهُ خصيصاً للطلبة المبتدئين (درجة
المقدمات والسطوح) في الحوزة.[70]
وكان له ما أراد من الكتاب من استجابة وقبول في أوساط الدراسات الفقهية.
فلم تمض إلا فترة وجيزة إلا وعُدَّ كتاباً مقرراً في علم الأصول في الحوزات
العلمية الشيعية وتفوق على كل الكتب المقررة في ذلك الموضوع، ويعود ذلك
لإتباعه أسلوب التدرج في طرح المفاهيم والنظريات بصورة تدريجية على الطالب.
كما وقدم السيد الصدر لمحة تاريخية عن تطور علم الأصول في الوسط الشيعي،
وشرح بإسهاب مبسط للطلبة أفكار ومفاهيم علم أصول الفقه وشرح اتجاهاته
المختلفة ومنجزات مفكري الأصول عبر التأريخ، كما هي الطريقة المتبعة في
الكتب الدراسية الأكاديمية الحديثة، وطرح فيها أيضاً نظرياته التي يختلف
فيها عن واضعي نظريات الفكر الأصولي.
ولكونه مرجعاً
كان السيد الصدر مدركاً لحقيقة أنَّ المرجعية التي تعدُّ المصدر الرئيس
للزعامة الشيعية الدينية والسياسية ولكنها تفتقد إلى آليات تنظيمية وإدارية
بالرغم من عمرها الذي تجاوز الألف سنة.[71]
فلا تزال تفتقد المرجعية إلى المقومات التي تتمتع بها القيادة السياسية في
العصر الحاضر، ومنها انعدام الوسائل التي تمكن المرجع من الاتصال والتأثير
على ممثليه ووكلائه المنتشرين في جميع أنحاء العالم وتنفيذ قراراته ضمن خطة
عامة وشاملة. فقد اعتاد المراجع على إدارة شؤونهم وتسيير سياساتهم واتخاذ
قراراتهم كلٌ حسب طريقة الخاصة وإسلوبه الشخصي معتمدين بصورة رئيسية على
حلقة المقربين من الأقارب والمريدين. فلم يكن هنالك آلية متطورة ومحددة
المعالم لجمع المعلومات، وإصدار التصريحات السياسية، وإتخاذ المواقف،
وتنفيذ القرارات. وعليه لم يكن هنالك نموذج أمثل لآلية صنع القرارات وتقييم
فعالياتها.
حالة التضارب
وعدم الانسجام آليات العمل هذه ولدت إرباكا اجتماعياً اضعف العلاقة بين
العلماء وجمهور المقلدين. فضلاً عن ذلك لم تكن هنالك آلية يمكن فيها للمرجع
تدريب العلماء الذين هم على مستوى المرجعية كي يستفادوا من العلوم والخبرات
العملية. فقد أضحى كل مرجع جديد يبدأ مهمته مع الأمة من نقطة الصفر، وأنَّ
كل مرجع يختلف عن غيره بمؤهلات القيادة والقدرة الإدارية والخبرة في التصرف
في الأزمات أو الشؤون السياسية.[72]
أراد السيد الصدر أنَّ يحول ما اسماه بالمرجعية الفردية إلى المرجعية
الموضوعية لغرض رفع مستوى وتأثير المرجعية وزيادة قدراتها وقوة تأثيرها في
الأمة. وحسب ما اقترحه السيد الصدر يتوجب على المرجع لكي يؤدي دوره ويقوم
بمهامه على أفضل وجه ويقوم بهداية الأمة إنَّ تكون لديه مؤسسة متكونة من
أجهزة منظمة ومتعددة المسؤوليات، عندها يستطيع المرجع من التغلب على نقاط
الضعف الإدارية التي وردت آنفاً. واستطرد السيد الصدر في اقتراحه مؤسسة
المرجعية الموضوعية وطالب بأن تقوم المرجعية بمهام متعددة الجوانب كالبحوث
والتخطيط والتنفيذ على أسس علمية منظمة تعتمد على توزيع المهام والمسؤوليات
على العاملين في المؤوسسة كل حسب اختصاصه. وعليه لأجل تصريف شؤون الأمة
اقترح السيد الصدر أن تشكل اللجان الآتية:
1ـ لجنة إدارة الوضع الأكاديمي في الحوزة العلمية.
2
ـ لجنة البحوث العلمية واستحداث دوائر لإجراء البحوث ومتابعة تنفيذها
والإشراف على الوضع العلمي في الحوزة.
3
ـ لجنة مسؤولة عن إدارة شؤون العلماء والوكلاء الذين يمثلون المرجع في
المدن الأخرى.
4
ـ لجنة العلاقات الخارجية والإعلام.
5
– لجنة رعاية الحركات الإسلامية والتعرف على نشاطه في العالم الإسلامي.
6
– اللجنة المالية.
ولأجل إنَّ يكون
المرجع قائداً مؤثراً في المجتمع يتوجب عليه إنَّ يحتل مركز الصدارة ويكون
في قمة السلم الهرمي الإداري، ليكون على بينة من نشاط معاونيه والطاقم
الإداري في مؤسسة المرجعية.[73]
ولكن لم يهمل
السيد الصدر الجوانب الإيجابية للمرجعية الذاتية-الفردية، ومنها سرعة
الاستجابة والتفاعل مع الأحداث السياسية، وضمان استقلالية اختيار القيادة،
وحفظ المرجعية من الاختراقات بواسطة الدخلاء وخصوصاً في المراتب الحساسة.
ولكن ايجابيات المرجعية الموضوعية تفوق الكثير من هذه الايجابيات في
المرجعية الفردية من حيث الكم والأهمية.[74]
فضلاً عن ذلك فالعملية السائدة في اختيار المرجعية الذاتية تؤكد على
المؤهلات الفردية والشخصية للمرجع نفسه لتمكنه الاستمرار بالمهام التقليدية
للمرجعية.
توجد شروط كثيرة
لقياس أهلية المرجع للقيام بدوره، أهمها اثنان. أولها : إنَّ يكون أعلم
أقرأنَّه في استنباط الحكم الشرعي، وثانيها: صفة العدالة التي تضمن عدم
إنحرافه عن جادة أحكام الشريعة وضوابطها الأخلاقية طوال حياته. ويرى السيد
الصدر إنَّ اختيار المرجع بهذه الشروط المحددة غير كاف لتحقيق الأهداف
المتوخاة في المرجعية الموضوعية حيث إنَّ المرجع بحاجة إلى مؤهلات وملكات
تمكنه من القيام بدوره في قيادة الأمة بأسرها ويؤمن بأهداف ودور المرجعية
ويسعى إلى تحقيقها.[75]
في مطلع عام 1977 أقدم نظام البعث الحاكم على خطوة من أجرأ خطواته للحد من
الشعائر الدينية الشعبية وذلك بمنعه مراسيم عزاء الإمام الحسين (ع).
وفي الواقع إنَّ النظام ومنذ عام 1970 كان يحاول وبدون جدوى منع هذه
المراسيم وخصوصا في المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف. فقد سعى النظام في
ذلك العام على استعمال كل الوسائل الممكنة على منع مواكب العزاء التي تنطلق
كل عام من النجف إلى كربلاء سيراً على الأقدام.
وتنطوي أهمية هذا الشعائر على المراسيم المرافقة لها، حيث ينطلق آلاف
المعزين باستشهاد سيد شباب أهل الجنة قادمين من كل أنحاء العراق ولعدة أيام
مشياً على الإقدام مسافة خمسين ميلاً مثيرين بذلك المشاعر الحزينة
والعاطفية وكذلك مثيرين حفيظة النظام الذي يعتبر مثل هذه الشعائر الدينية
تحديا صارخا لأيديولوجيته العلمانية الذي صمم على القضاء على الروح الدينية
لدى الشعب العراقي. كما إنَّ هذه المواكب الحسينية تعطي دعماً وتعزيزاً
لمقام المرجعيات الدينية التي تعطيها دعماً شعبياً ظاهراً.
لم يثن قرار النظام بمنع مواكب العزاء لا الشعب ولا الجهات المنظمة لها من
العدول عن تقليدها وأصروا على الخروج في الموعد المحدد للموكب في صفر من
عام 1397 هجرية.[76]
وقد وزع منظمو المواكب منشورات تدعو الشعب للمشاركة في العزاء وتحدي السلطة
الجائرة.[77]
وبعكس مراسيم السنين السابقة فقد أثارت قرارات السلطة الشعب وأدى إصرارهم
على الخروج في المواكب إلى اضطرابات كبيرة في مدينة النجف .
وبالرغم من المحاولات اليائسة للسلطة وتنظيم حزب البعث لحمل الجماهير على
عدم الخروج في المواكب الحسينية وذلك بإقامة التجمعات والمهرجانات إلا أنَّ
كل تلك الجهود باءت بالفشل وانتهت بالفوضى.[78]
ومضت المسيرة في موعدها المقرر وخرج فيها ما يقارب الثلاثين ألف مشارك
يحملون الرايات والشعارات الدينية وفي مقدمتها آيات قرآنية منها (وما
النصرُ الإ مِن عند اللهِ) و (يدُ اللهِ فوقَ أيديـِهم).[79]
لم تستطع قوات أمن النظام وشرطته من السيطرة على الحشد الجارف الذي اندفع
من النجف وإيقافه. وعندما كان الموكب يتقدم نحو مدينة كربلاء وأصبح على بعد
عشرة أميال منها كان النظام لا يزال في حيرة من أمره، وهل سيترك المشاركين
في الموكب يدخلون المدينة ويتحمل مرارة الهزيمة والانكسار، أم يمنعهم من
دخولها بأي قوة كانت؟
وكوسيلة لإنقاذ ماء وجهه لجأ النظام أولاً إلى التحاور مع قادة الموكب،[80]
بواسطة مجموعة من علماء الدين البارزين منهم السيد محمد باقر الحكيم وأعلن
النظام استعداده للسماح للمسيرة بأن تمضي وتدخل مدينة كربلاء ورفع الحظر
المفروض عليها بشرط أنَّ يمتنع المشاركون عن إطلاق الهتافات المناهضة
للسلطة.[81]
ولكن مشاعر الكراهية والرفض ضد النظام كانت إلى درجة من الحدة والقوة لدى
المشاركين بحيث أجهضت أيّة فكرة الحوار والتشاور مع الوفد الذي أرسله
للتوسط. عندها لجأ النظام إلى تحريك لواء كامل من الجيش تعززه الدبابات
وطائرات الهليوكوبتر والطائرات الحربية المقاتلة.[82]
بالرغم من هذه الإجراءات كلها استطاع المئات من المشاركين في الموكب من
دخول مدينة كربلاء بسبب تعاطف العديد من الضباط والجنود معهم ورفضهم إطلاق
النار على مواطنين مسالمين، كل ذنبهم أنهم كانوا مشتركين في موكب ديني !
ويطلقون الهتافات الدينية. ولكن النظام لم يستسلم لهؤلاء فحشد لهم ما كان
متوفراً لديه من كادر حزبي ورجال الأمن والشرطة واعتقال أعداد أخرى.[83]
وقد قامت الحكومة الجائرة بتشكيل محكمة خاصة أطلق عليها محكمة الثورة
ترأسها ثلاثة من قادة الحزب البارزين[84]
لمحاكمة منظمي الموكب وقيادته البارزة وكعادة النظام بمعالجة الانتفاضات
الشعبية وفي مثل هذه المحاكمات الصورية تم إصدار الأحكام الجائرة وذلك
بإعدام سبعة من منظمي المواكب والسجن المؤبد على خمسة عشر شخصاً ومن ضمنهم
السيد محمد باقر الحكيم.
وقد أثرت هذه الانتفاضة على هيكلية النظام وأدت إلى تصدعه حيث انقسمت قيادة
الحزب العليا إلى فريقين. فقد أتهم الطرف المتشدد في النظام بعض الأعضاء
البارزين في حزب البعث بالتهاون والتردد، بينما اتهم الطرف الآخر بأن
السلطة استعملت وسائل غاية في العنف والقسوة ضد المشاركين في الموكب لم يكن
لها من داع لاستعمالها أصلاً. وقد تغلب الفريق المتشدد الذي كان يقوده صدام
والبكر على الفريق المعتدل وتم إبعادهم وطردهم من الحزب ومناصب الدولة شر
طرده، بضمنهم أعضاء المحكمة الخاصة التي حاكمت قيادة المواكب الحسينية بحجة
إنَّ أحكامهم كانت متهاونة وغير رادعة.[85]
وقد أثار حكم سجن السيد محمد باقر الحكيم سخطا شعبياً واسعاً وخصوصاً في
أوساط الحوزة العلمية. وقد أرسل الإمام الخوئي وفداً إلى القصر الجمهوري
للمطالبة بإطلاق سراحه. وقد تم تخفيف الحكم من المؤبد إلى سنين قليلة ولم
يمض وقت طويل حتى أطلق سراحه ضمن العفو العام عن السجناء السياسيين في تموز
1978 م.
وفي كل الأحوال كان النظام يشك بضلوع السيد الصدر بالإنتفاضة التي رافقت
المواكب الحسينية خصوصاً وأنها كانت منظمة تنظيماً جيداً مما أوحى للنظام
بعلاقة الإنتفاضة بحزب الدعوة المحظور. وفي الحقيقة، وحسب ما تنقله أدبيات
حزب الدعوة، فإن خطة الانتفاضة كانت قد رسمت بواسطة فروع الحزب في النجف
وكربلاء.[86]
كما تبين للنظام بأنَّ السيد محمد باقر الحكيم الذي أرسله النظام للتفاوض
مع قادة الانتفاضة هو بالفعل ممثلاً شخصياً للسيد الصدر وأحد اقرب المقربين
إليه، يعود له فشل المفاوضات في إقناع قادة الإنتفاضة في العدول عن قرارهم
باستمرار المواكب بحكم كونهم على علاقة بحزب الدعوة ويتلقون أوامرهم من
السيد الصدر. وهذا ما أثار شكوك النظام بأن مؤامرة ما قد حيكت بواسطة السيد
الصدر، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله بواسطة أجهزة الأمن واقتياده إلى بغداد
للتحقيق معه وقد أطلق سراحه بسرعة خوفاً من إثارة اضطرا بات جديدة تطالب
بإطلاق سراحه خصوصاً وأنَّه في تلك المرحلة كان السيد الصدر قد أصبح مرجعاً
دينياً شهيراً يشار إليه بالبنان.[87]
وقد كشف السيد محمد باقر الحكيم لاحقاً أنَّ السيد الصدر قد خطط لإثارة
إنتفاضة أخرى تؤدي الى إعتقاله بواسطة السلطة وقد تقود الى إعدامه. ولكن
السيد باقر الحكيم لم يوضح لماذا عدل السيد باقر الصدر عن خطته تلك.[88]
في الوقت الذي تنفس فيه قادة النظام البعثي الصعداء بقضائهم على انتفاضة
صفر سنة 1977 وحسبوا أنهم قد قضوا ولسنين طويلة قادمة على المعارضة الدينية
اهتزت الأرض تحت أقدامهم مثلما اهتز العالم ككل بثورة البركان المتأجج في
إيران والمهددة بزعزعة الأنظمة في المنطقة والتي كانت تصبوا إلى عصر من
الاستقرار السياسي.
بحلول عام 1978 اندلعت ثورة إسلامية ضد نظام الشاه القوي المدعوم من قبل
الولايات المتحدة وكان هذا التحرك الجماهيري الثوري تقوده مرجعية دينية
مركزها النجف. ومرة أخرى تحتل هذه المدينة المقدسة موقع الصدارة في الأحداث
ليس كونها مركز للزعامات الشيعية الدينية، وإنما كمركز اضطرابات سياسية.
وعلى
الرغم من أنَّ هذه الثورة لم تكن موجهة ضد نظام البعث الحاكم في العراق إلا
أنَّ هذا النظام قد أحس بنذير الرعب والمتاعب القادمة منها. وكان الإمام
الخميني قائد الثورة الإسلامية يعيش في النجف طيلة السنوات الأربع عشر
الأخيرة مستفيداً من عداوة نظام البعث للشاه لينطلق بحملته الواسعة ضد
النظام الملكي في إيران. وقد سمحت له السلطات البعثية بإيصال نداءا ته
السياسية المعارضة إلى الشعب الإيراني عن طريق الإذاعة العراقية الناطقة
باللغة الفارسية وهذا بدوره فتح منافذ عديدة للإمام الخميني للإتصال مع
حلفاءه السياسيين والقادة الميدانيين في إيران.
ولكن شهر العسل هذا لم يدم طويلاً. فبعد اتفاقية الجزائر عام 1975 التي
وقعها الشاه مع صدام حسين، والتي أنهت الصراع بين النظامين وتم قطع هذه
المساعدات عن الإمام الخميني. والأهم من ذلك أنَّ هذه المحاباة من قبل
النظام على الرغم من قصرها لم تدفع الإمام الخميني إظهار أيّ من مشاعر الود
والتعاطف تجاه النظام الحاكم خصوصاً وأنَّه عايش وشهد بأم عينه حملات
الاضطهاد والتعسف التي مارستها السلطة البعثية بحق الحوزة العلمية في النجف
وخصوصاً القيادة الدينية للشيعة. وفي مرات عديدة كان الإمام الخميني يعبر
عن سخطه واستهجأنَّه لحملات نظام البعث ضد المسلمين النشطين بواسطة رسائل
شفوية ينقلها عنه مساعدوه السياسيون.
وفي كل مرة كان النظام يحذر الإمام الخميني من مغبة التدخل في شؤون العراق
الداخلية، ولإظهار سخطه واحتجاجه كان الإمام يمتنع عن إعطاء دروسه في
الحوزة لعدة أيام .
وقد أيقظت الثورة الإسلامية في إيران الحماس السياسي لدى المرجعية الدينية
في العراق حيث شعرت أنَّها جزءٌ لا يتجزأ من الانتفاضة الإيرانية خصوصاً،
وأنَّ هذه الثورة قد أوضحت وبجلاء أنَّه من الممكن تحدي وهزيمة الأنظمة
المستبدة وأنَّ الحركة والفكر الإسلاميين باستطاعتهما قيادة الجماهير
وتحقيق حلمها في أقامة دولة إسلامية.
وأثبتت الثورة أنَّ الدماء التي سفكت خلالها لم تذهب سدى، وإنما على العكس،
فقد حفزت آخرين على الانضمام للثورة والدفاع عنها، وهكذا تحولت الأعمال
القمعية التي مارسها النظام السابق لسحق الثورة سلاحاً ضده عجلت بسقوطه في
النهاية .
تحت ضغط نظام الشاه قام البعث بترحيل الإمام الخميني من العراق إلى فرنسا
وعشية سفره زاره السيد الصدر متحدياً النطاق المضروب حول بيت الإمام
الخميني من قبل رجال الأمن[89]
وقد حملت هذه الزيارة أكثر من مدلول وذات أهمية بالغة فضلاً عن الدعم
المعنوي الذي حظي به الإمام الخميني من قبل السيد الصدر. فإن زيارة مرجع
لمرجع آخر كانت غير متعارف عليها في عُرف الحوزة. بعد أحداث الثورة
الإيرانية، برز السيد الصدر الزعامة في الساحة السياسة العراقية وكمتحد
سياسي رئيس لنظام البعث ليقود ويستنهض كل النشاطات المعادية للنظام خلال
السنتين القادمتين.
اظهر السيد الصدر دعمه اللامحدود وتحمسه الشديد للثورة الإيرانية بنشاطات
واسعة وعديدة.[90]
أولها: أنَّه أصدر بياناً مطولا يساند فيه الثورة الإسلامية والشعب
الإيراني ويمجد بالإمام الخميني الذي كان وقتها متواجداً في باريس.[91]
ثانيها: ومباشرة بعد انتصار الثورة وعودة الإمام الخميني إلى إيران أرسل
الشهيد الصدر أحد أخلص معاونيه وهو السيد محمود الهاشمي كممثل شخصي له
للاتصال بقيادة الثورة.[92]
وعدَّت الحكومة إلبعثية هذه النشاطات خرقاً فاضحاً لسياستها بالانتظار
والتريث نحو مجريات الأحداث في إيران.[93]
زيادة على ذلك استنكر السيد الصدر سياسة حكومة البعث عندما أشعلت نار
الفتنة والاضطرابات لدى عرب إيران بحجة المطالبة بحقوقهم من الحكومة الثورة
بقيادة أية الله الخميني، وأرسل برقية معنونة إلى عرب إيران يدعوهم فيها
إلى طاعة قادة الثورة الإسلامية وذلك باعتبار إنَّ الجمهورية الإسلامية هي
امتداداً للحكومة التي أرسى قواعدها الرسول الأعظم (ص) والتي تعايشت فيها
كل الطوائف والجماعات العرقية بمحبة ووئام.[94]
ثالثها: بادر السيد الصدر بكتابة ست بحوث متنوعة فيما يتعلق بالأسس
والقواعد التي تقوم عليها الحكومة الإسلامية، وقد طبعت هذه البحوث بعد ذلك
في كتاب بعنوان "الإسلام يقود الحياة".
أحد هذه البحوث تتناول دراسة فقهية حول الأسس الشرعية والدستورية لقيام
حكومة إسلامية، وأوجز السيد لصدر في هذا البحث تركيبة الحكومة الإسلامية
ووظائف السلطات المتعددة فيها ومسؤوليات المرجع الأعلى في الدولة الإسلامية
وبين شرعية صلاحيته المطلقة وفق الفقه الشيعي. وقد كانت أفكار السيد الصدر
متوافقة مع ما كان يدعو إليه الإمام الخميني حول ما كان يعرف في الدراسات
الفقهية بولاية الفقيه. ويبدو إنَّ بحث السيد الصدر هذا كان له الأثر
البالغ على واضعي دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث تجد وبسهولة
أفكار وطروحات السيد الصدر حول تركيبة الحكومة الإسلامية متطابقة مع ما جاء
في المسودة النهائية للدستور الإيراني.
البحث الثاني المهم للسيد الصدر كان بعنوان "خلافة الإنسان وشهادة
الأنبياء" وهي رسالة في النظرية السياسية، في الوقت نفسه تبين حقوق وواجبات
الراعي والرعية في الحكومة الإسلامية. وهذا البحث يعدُّ المرجع الشيعي
الأعلى الخليفة الشرعي للنبي والأئمة المعصومين (ع)، ولكنه لا يحمل صلاحية
التشريع، وإنما له صلاحية تفسير الأحكام الإسلامية بما يتلائم والظروف
الموضوعية المستجدة.
من ناحية أخرى تبحث هذه الرسالة هدف الإنسان في الحياة إلا وهو
تطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى من خلال خلق مناخ اجتماعي صالح على الأرض.
ويعتبر الإنسان من أفضل مخلوقات الله سبحانه وتعالى لقدرته على تحمل
مسؤولياته من خلال ممارسته لأرادته بحرية تامة. ودور هذا المخلوق على الأرض
هي كونه خليفة الله سبحانه وتعالى، ويبقى دور المصطفين (من أنبياء وأئمة
معصومين) هي هداية هذا الإنسان في رسالته العظيمة الخالدة في الأرض.
وعليه فإنَّ مهمة (المرجع الأعلى) في الدولة هي كونه نائباً عن
المعصومين والمصطفين، فهو المشرف والمراقب على أمور الناس وسلامة المسيرة
الإنسانية في حياته في الأرض وتحقيق دور الخلافة كما رسمه الباري لهم.
البحث الثالث المعنون "منابع القدرة في الدولة الإسلامية" كان
محاولة للسيد الصدر بيَّن فيها القدرات الضخمة التي يمتلكها نظام الحكم
الإسلامي في قيادة الأمة إلى الإمام واقتلاع جذور التخلف والانحطاط.
ولتحقيق هذا الهدف اشترط إلا يحكم المسلمين أيّ شكل آخر من إشكال الحكومات
الوضعية. وعزى مقومات القوة هذه إلى :
1.
الطبيعة الفكرية (الإيديولوجية) للدولة الإسلامية.
2.
الطبيعة النفسية للمسلم المرتبطة بالرسالة السماوية.
لم يكن هدف الحكومة الإسلامية مادياً فحسب وإنما لها هدف روحي كذلك.
وبتعبير أدق هنالك تسديد رباني حيث، ويدعو السيد الصدر لأنَّ تكون سياسات
الحكومة الإسلامية متوافقة والمعايير الأخلاقية التي تصون العدالة في
المجتمع، وعليه فإنَّ كل مسلم مرتبط تاريخياً وأخلاقياً وعاطفياً بالحكومة
الإسلامية.
وعالجت البحوث الثلاثة الباقية العناصر الأساسية لاقتصاد الدولة
الإسلامية وتركيبة نظامه المصرفي، وهي مطابقة بشكل يكاد يكون تاماً مع
طروحات السيد الصدر التي قدمها قبل عشرين عاماً، وهذا يؤكد تطابق نظريات
الشهيد الصدر مع اجتهاداته المبكرة حول هذه المسائل.
في ذلك الوقت بدأ السيد الصدر بإلقاء دروس ذات مغزًى سياسي في
الحوزة. وقد جمعت هذه تقريرات التي بلغ عددها أربع عشرة محاضرة في مجلد
واحد تحت اسم "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن". ومن ضمن ما تطرق له في
تلك المحاضرات عملية التغيير الاجتماعي وفلسفة التأريخ مستلهماً نظريته من
آيات الذكر الحكيم.
فقد ميز السيد الصدر نوعين من السنن التي تتحكم بالعملية التأريخية:
الأولى هي تلك التي ليس للإنسان سيطرة على محصلتها النهائية، والأخرى تلك
التي يتحكم فيها الإنسان ويحدث فيها تغييراً تاريخياً أما نحو الخير أو
الشر. وقدم السيد الصدر في هذه الإطروحة تصوراً جديداً عن التقسيم الطبقي
للمجتمع الذي وصفه بـ "المجتمع الفرعوني" حيث ينقسم المجتمع إلى طبقات،
أحدها ظالمة في القمة، تقابلها أخرى في الحضيض والتي سماها بطبقة
المستضعفين. بينما تحتل طبقات الأخرى مواقع لها بين الاثنتين؛ منها طبقة
المنتفعين من النظام المتسلط، وطبقة المهادنين سياسياً. وبأستثناء طبقة
المستضعفين، وحسب رأي السيد الصدر، فإنَّ مصير الطبقات الأخرى الإنهيار
الحتمي والعقاب الأخروي من قبل الباري تعالى. وما قصد به السيد الصدر عن
استثناء المستضعفين هم أولئك الحركيين والنشطاء سياسياً والذين يجاهدون
اقتلاع كل مظاهر الظلم والفساد من المجتمع، وإرساء الحكومة العادلة التي
قدرها الباري تعالى وأمرت بها الشرائع السماوية.
ويدعو السيد الصدر بأنَّه أذا توفرت الإرادة الحقيقية لدى الشعب
فإنَّ باستطاعته تغيير مجرى التأريخ، وأنَّه من الخطأ إنَّ الإيمان بأن
تغيير الظروف التأريخية أمر ليس في متناول البشر. ويتعين على المستضعفين
إلا يفكروا فقط بالقضاء على الظلم وإنما بالحصول على القوة والهداية لإقامة
نظام سياسي واجتماعي عادل يلبي وبشكل أفضل متطلبات الإنسان المادية
والروحية.
وكان درس السيد الصدر الأخير عبارة عن خطاباً عاطفياً وجدانياً
مثيراً، محاولاً فيه التأثير على مشاعر طلبة الحوزة العلمية وحثهم على
الجدية والإخلاص في الحياة وتحقيق أهداف الإسلام. وفي نهاية الخطاب صرح
السيد بان أيامه قد أصبحت معدودة، ولمح وبالتحديد لطلابه بأنَّه كان يخطط
لعمل سياسي معارض ومباشر قد يؤدي بالنهاية إلى إعدامه.[95]
ومن هذا المنطلق، كانت أجرء خطة سياسية أقدم عليها السيد الصدر في
حرب الأعصاب التي كان يشنها ضد النظام هي فتواه المتعلقة بتحريم الإنتماء
الى حزب البعث أو أية منظمة تابعة له. هذه الخطوة كانت على درجة من الجرأة
والخطورة بحيث إنَّ ممثلي السيد الصدر في المدن العراقية ترددوا في إعلانها
على الملأ خوفاً على حياتهم أو على الأقل على حياة السيد الصدر نفسه.
ولغرض نشر الفتوى على نطاق أوسع لجأ
السيد الصدر إلى أساليب أخرى منها تشجيعه الطلبة بسؤاله خلال أحاديثه
المنتظمة والدورية في الحوزة حول مدى شرعية انتماء المسلم في صفوف حزب
البعث. وبهذه الصورة أعلن السيد وبجلاء عن موقفه المعارض وحرمة الانتماء
للحزب. وتوقع كثيرون إنَّ تقدم الحكومة على عمل ما ضده وعلى أيّ حال فأن
الذي هيج الوضع كله وكانت بمثابة الشرارة التي نسفت الوضع بأكمله (أو القشة
التي قصمت ظهر البعير كما يقال) جاءت من إيران في النهاية.
فقد أبرق الإمام الخميني عن طريق الإذاعة معتمداً على مصادره
الموثوقة في النجف، رسالة إلى السيد الصدر دعاه فيها للبقاء في الحوزة وعدم
مغادرة العراق حتى ولو تعرض لمضايقات الحكومة.[96]
بالرغم من إنَّ السيد الصدر كان في الحقيقة يواجه ضغوطاً متزايدة
باعتقاله أو حتى إعدامه ولكنه لم يكن يخطط وقتها، وطبقاً لما أورده السيد
محمد حسين فضل الله، لمغادرة العراق على الإطلاق.[97]
على أيّ حال فقد فجرت رسالة الخميني وجواب السيد الصدر عليها[98]
موجة من المظاهرات في المدن العراقية الكبرى تأييداً لهم جميعاً
[99]
كانت أشدها وأكثرها عدداً ما حدث في مدينة النجف.
حيث تقاطرت وفود عديدة من أماكن مختلفة في العراق على منزل السيد
الصدر معربة عن ولائها وتأييدها. وقد طلب السيد الصدر من أعوأنَّه وممثليه
وقف هذه التظاهرات، وحيث كان المتظاهرون يمثلون الزبدة الخيرة والناشطة من
الجماهير الداعمة له، فقد كانت نية السيد الصدر، وحسب ما أورده الشيخ
إلنعماني، لم يرغب في كشف قوته الجماهيرية كلها للنظام، بالإضافة أنَّه كان
يحرص على حماية مريديه من أية أعمال بطش محتملة سف تلجأ أليها الحكومة في
القريب العاجل.[100]
وقد صرح السيد الصدر لأحد أعضاء حزب الدعوة "إن هدوء النظام في
المرحلة الحالية ينطوي على مخاطر كامنة وجمة، وعليه يجب إنَّ نتوخى الحيطة
والحذر في أعمالنا"[101]
ولم تمضِ إلا فترة قصيرة من الهدوء النسبي حتى بدأت والاعتقالات والتصفيات
الجسدية التي تنبأ بها الصدر تطال حيث تم اعتقال معظم وكلائه ومئات من
الذين شاركوا في مظاهرات إعلان البيعة له وتوجت هذه ألإعمال باعتقال الصدر
نفسه واقتياده إلى بغداد. ووقتها ذهبت آمنة الصدر الملقبة ببنت الهدى إلى
مرقد الإمام علي (ع) وألقت خطبة حماسية حرضت فيها المواطنين على التظاهر ضد
النظام وإعلان سخطهم وغضبهم والمطالبة بأطلاق سراح السيد الصدر.
وحالما انتشر خبر اعتقال السيد الصدر حتى اندلعت الاضطرابات في مدن
عراقية عديدة منها بغداد والبصرة وديالى والسماوة والكوت والديوانية
وكربلاء ومدن أخرى. وقد أغلق السوق متاجره في النجف واندلعت اضطرابات قوية
اصطدم المتظاهرون الغاضبون فيها بالشرطة وتم تطويق المدينة ووضعها تحت
الحصار التام واستعرض النظام عضلاته بنشر رجال الأمن فيها.
وأجبرت الاضطرابات والمظاهرات الجماهيرية التي عمت العراق النظام
البعثي إلى أطلاق سراح الإمام الصدر في اليوم نفسه. ولكن إعتقال السيد
الصدر أعطى النظام البعثي فكرة واضحة و كاملة عن مدى حجم الدعم الجماهيري
الذي يتمتع به الصدر في صفوف الشعب العراقي الذي حولته معارضته للنظام إلى
قائد وطني استقطب اهتمام الجماهير والمعارضة حوله، وأصبح وجوده بحد ذاته
يشكل تهديداً للنظام وشرعية القيادة البعثية في الحكم.
وصحيح إنَّ السيد الصدر كانت تنقصه وسائل الإعلام الواسعة لإيصال ما
كان يريد التعبير عنه، إلا الإذاعة العربية التي تُبَث من إيران ساهمت في
سد هذا النقص الإعلامي. ولم يكن النظام البعثي مستعداً لتسفير السيد الصدر
خارج البلاد معتبراً بما جرى للشاه عندما سفر الإمام الخميني خارج إيران
وحوله إلى زعيم وطني استقطب جُل المعارضة السياسية حوله. وعليه فقد لجا
النظام إلى سياسة خنق السيد الصدر وحرمأنَّه من أيّ متنفس سياسي له في
الداخل حتى يستطيع تغييبه من المسرح السياسي وقنوات الاتصال بالمعارضة والى
الأبد.
ولأجل تطبيق هذه الخطة الخبيثة استهدف النظام أولاً حرمان السيد
الصدر من حلفائه السياسيين في العراق، وبعبارة أدق من الاتصال بممثليه من
علماء الدين المنتشرين في أنحاء مختلفة من العراق ومن قيادة حزب الدعوة.
وشهد العراق حملات واسعة من الاعتقالات طالت الإسلاميين الناشطين
والقادة في الحركة الإسلامية الذين تعرضوا فيما بعد لأقسى أنواع التعذيب،
ومن ثم الإعدام بدون تحقيق أو محاكمات نزيهة. وفي المدن العراقية الكبرى
تعرضت جمهرة كبيرة من علماء الدين الكبار إلى الإعدام السريع وأغلقت
مساجدهم التي كانوا يمارسون فيها شعائرهم الدينية. وعلى سبيل المثال فإنَّ
بيانات الحكومة الرسمية أعلنت إنَّ محكمة الثورة قد أصدرت حكم الإعدام على
258 شخصاً في اثنين وعشرين جلسة فقط.[102]
في الوقت نفسه وضع السيد الصدر تحت الإقامة الجبرية، وقطعت عنه جميع
الاتصالات الخارجية وابقوا خطا واحدا مفتوحا معه من خلال علماء الدين
الموالين للسلطة لغرض الحصول على بعض التنازلات منه.
في البداية طلبت السلطة منه الاستسلام التام لمطاليبها من ضمنها ما قدمه
مدير الأمن العام فاضل إلبراك أثناء استجوابه للسيد الصدر في رجب 1400
هجرية وهو إنَّ يوقف السيد دعمه للثورة الإيرانية ويعلن تأييده لسياسة
النظام البعثي تجاه حكومة الثورة إيران. وعندما وجد النظام عدم استعداد
الصدر للانصياع لطلباته خفف من لهجته وطلباته، وأرسل وسيطهُ الشيخ عيسى
الخاقاني للتباحث مع السيد الصدر. وقد عرض الوسيط على السيد الصدر طلبات
ليختار واحدة منها لينقذ نفسه من موت محقق وهذه النقاط هي :
1.
وقف تأييده للإمام الخميني والثورة الإسلامية في إيران.
2.
إصدار بيان يؤيد إحدى سياسات الحكومة مثل تأميم شركات النفط
الأجنبية أو قرار منح الحكم الذاتي للأكراد.
3.
إصدار فتوى تحرم الانتماء لحزب الدعوة.
4.
الموافقة على أجراء مقابلة صحفية مع صحيفة عربية أو أجنبية
يتحدث فيها بصورة محددة عن أمور دينية بحتة.
5.
إصدار فتوى جديدة تنسخ الفتوى السابقة التي تحرم الانتماء
لحزب البعث.
عند ذلك وحسب ما أورده الشيخ النعماني (سكرتيره الشخصي) استنتج السيد الصدر
أنَّ أيامه قد أصبحت معدودة وتوقع حتمية أستشهاده وعليه رفض كل تلك
المطالب.
وكانت فكرة حصوله على الشهادة قد سيطرت على مخيلته ونشاطه السياسي لسنين
عديدة. وعندما وصل إلى استنتاج نهائي مؤداه أنَّ نظام البعث في العراق قد
صمم بصورة لا رجعة فيها على تصفيته الجسدية عندما وصل جبروت النظام إلى
درجة يستحيل على حركة إسلامية متواضعة زعزعته. ولكن ذلك كان يعني بقاء
النظام على تسلطه وضياع المشاعر الدينية من الشعب العراقي، وكان العمل
الوحيد الذي فكر به الصدر هو عمل استشهادي دموي مفجع قادر على إثارة عواطف
الشعب ودفعه الى التحرك السياسي الجاد ضد حكومة البعث.
أراد السيد الصدر إنَّ يحاكي تحرك الإمام الحسين (ع) السياسي الذي
أدى استشهاده المأساوي، عندما واجه جبروت الأمويين في القرن السابع
الميلادي مما أدى إلى فقدان الأمويين شرعيتهم في الحكم وأشعل إستشهاد
الإمام الحسين شرارة أثارة سلسلة من الانتفاضات المسلحة والجماهيرية أدت
إلى انهيار دولتهم على يد العباسيين الذين رفعوا شعار الثار للإمام الحسين
وأهل البيت (ع). وقد ورد عن السيد الصدر بأن المبادئ والعقائد لا يستنهض
الناس جميعاً وإن ما تحتاجه الغالبية هي إلى دماء لتحفزها على الثورة."
وكذلك قوله "يحتاج العراقيون إلى دم طاهر كدم الحسين لايقاضهم من سباتهم".[103]
لم يكن استشهاد السيد الصدر حصيلة من محصلات الثورة الإيرانية ولكنه
أمر تعود جذوره إلى منتصف السبعينات عندما عزز الحكام البعثيون قوتهم من
خلال بعض المنجزات الاقتصادية التي رفعت من مستوى معيشة الفرد العراقي
رافقتها إجراءات قسرية ضد خصومهم السياسيين فضلاً عن تطبيق سياسة خارجية
متطرفة لقيت حماسا جماهيريا في العراق وعلى امتداد العالم العربي.
في ذلك الوقت وبالتحديد في عام 1976 تولدت فكرة السيد الصدر بمحاكاة
الإمام الحسين (ع) لإثارة مشاعر الشعب ودفعه إلى القيام بنشاط وتحرك مضاد
للحكومة خصوصاً وأنَّ الناس وقتها لم يكونوا ميالين للثورة والقيام بأي عمل
ضد سلطة تمارس طمس الحقوق السياسية والإنسانية للمواطنين ومنعهم من حرية
التعبير عن الرأي. كانت الخطة تقضي بأن يقود السيد الصدر وبقية العلماء
الموالين له مظاهرة جماهيرية في مرقد الإمام علي (ع) في النجف يلقي خلالها
الصدر خطاباً يهاجم فيه سياسة الحكومة بخرقها لحقوق المواطنين الدينية
والاجتماعية ويقوم الإخرون بتحريك الجماهير في الصحن الشريف. وتوقع السيد
الصدر بأن تقوم قوى الأمن برد عنيف على المظاهرة ولكن سيستمر في قيادتها
إلى أنَّ يستشهد. ويستمر بقية العلماء من وكلاءه بتنفيذ الخطة والمضي في
تعبئة الجماهير في نشاطات مناهضة للحكومة مثل الإضرابات والتظاهرات وبقية
أعمال الرفض الأخرى.
ولكن نجاح هذه الخطة يعتمد على دعم العلماء ومراجع التقليد في النجف
الأشرف لتحقيق هدفها المنشود بزعزعة شرعية وإستقرار النظام. وكان السيد
الصدر يأمل في الحصول على شرعية عمله هذا مرجع دين يحمل روحا ومنهجاً
سياسية ثابتاً إلا وهو أية الله الخميني. ولكن عندما عرض عليه السيد الصدر
الأمر للحصول على مباركته لعمله الاستشهادي المخطط له كان جوابه بالحرف
الواحد "لا ادري". عندها أحس السيد الصدر بصعوبة وقوف الحوزة وراءه وعدل عن
خطته الاستشهادية تلك. وقد فكر بأن موته المأساوي بدون مباركة المرجعية
الدينية سيكون موتاً بدون سبب سياسي يذكر وقد يعتبر انتحاراً سياسياً.
وبقيت فكرة الاستشهاد هذه تراود مخيلة السيد الصدر. وعندما توصل إلى
قناعة مفادها بأن الجمهورية الإسلامية في إيران والتي يقودها مرجع ديني
كبير ستكون متحمسة لاستثمار عملية استشهاده، وستكون مستعدة لأكمال الشوط في
الصراع ضد النظام الجائر. واستلم السيد الصدر إشارات من قبل القيادة
الإيرانية تلمح له دعمها في خطته هذه.
وقد هول الإعلام الإيرانية عملية الإستشهاد هذه عندما بدأت تحمس
الدعوة الى تحرير العتبات المقدسة في العراق. وبدأت البرقيات والنداءات
تتوالى من الإذاعة الإيرانية الناطقة بالعربية تدعو الشعب العراقي
للانتفاضة والثورة على النظام البعثي الكافر، والإلتفاف حول قيادة السيد
الصدر. حينها أيقن الصدر أنَّ إيران سوف تحمل مشعل استشهاده، وأنَّ علماء
الدين المبعدين المبعدين من العراق سيقودون الثورة من بعده. وعليه فقد
أمدته الجمهورية الإسلامية بعاملي قوة كان يحتاجهما، طالما افتقدهما عندما
فكر لسنوات قليلة مضت بثورته الحسينية. إلا وهما تأييد حركته من قبل
المرجعية وضمان استمرارية النضال والعمل الجهادي.
كذلك كان هنالك عامل نفسي ساعد في أعادة تفكير السيد الصدر بخطته
الاستشهادية ذلك بأنَّه قد شهد بأم عينه مولد الجمهورية الإسلامية التي كان
يصبو إليها طيلة حياته كما إنَّ رؤيته للمرجعية الموضوعية (الرشيدة) قد
أصبحت حقيقة واقعة في إيران بمرجعية أية الله الخميني حيث إنَّ هذه
المرجعية قد حققت هدفها بأقامة الحكومة الإسلامية[104]
وبما أنَّه قد أحس إنَّ استشهاده ضروري لديمومة الحركة الإسلامية ابلغ وسيط
النظام البعثي الشيخ عيسى ألخاقاني : "كل ما كنت أصبو إليه في حياتي هو
قيام حكومة إسلامية حقيقية في الأرض. وبعد إنَّ تحقق هذا الحلم في إيران
وبقيادة الإمام الخميني فلا يهمني الآن إنَّ أموت أو إنَّ أحيا ما دام
الحلم الذي أردت تحقيقه قد أصبح حقيقة واقعة والحمد لله".[105]
وما إنَّ شهدت التنظيمات الإسلامية وعلى رأسها (حزب الدعوة
الإسلامية)[106]
عمليات الحصار والمضايقة التي يتعرض لها قائدهم الإمام الصدر حتى نقلوا
مرحلية عملهم التنظيمي من الدور التثقيفي إلى العمل السياسي والكفاح المسلح
ضد القيادات البعثية. وكانت ذروة هذا العمليات المسلحة ضد الحكومة
ورجالاتها هي عملية الهجوم على طارق عزيز الذي كان من منظري حزب البعث
ووزير الخارجية. وقد حدث الهجوم في الجامعة المستنصرية ببغداد حيث كان من
المقرر أنَّ يلقي طارق عزيز خطاباً على طلاب الجامعة المنظوين في حزب البعث
يتحدث فيه عن موقف الحكومة ضد إيران. فقد تسلل احد النشطاء الإسلاميين في
صفوف الطلبة البعثيين وألقى قنبلة يدوية على طارق عزيز قتل فيها أحد حرسه
الشخصيين وأصيب هو بجروح طفيفة. وفي مراسيم تشييع قتلى العملية ألقيت قنبلة
يدوية أخرى قتلت آخرين.[107]
وقد أصيب النظام بصدمة عنيفة فهذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها الشيعة
إلى الكفاح المسلح علماً أنهم يؤلفون جل الكوادر الوسطى والدنيا للحزب
الحاكم.
وصرح صدام حسين، الذي أصبح وقتها رئيساً للجمهورية، وأثناء زيارته
لجرحى عملية الجامعة المستنصرية، بالإنتقام من منفذي هذه الأعمال وألقى
اللوم على عملاء إيرانيين بتنفيذهم تلك العمليات. وبدأت عملية تهجير واسعة
لعشرات الآلاف من العراقيين الذين يدعي النظام انهم ينحدرون من أصول
إيرانية قدر عددهم بـ 132 ألف مواطناً. وقد باءت خطة النظام (بإدعاء إنَّ
أعمال العنف تقوم بها العناصر ذات الأصول الفارسية) بالفشل التام حيث بقيت
حركة المعارضة والعمليات المسلحة ضد النظام قائمة على قدم وساق في طول
البلاد وعرضها. علاوة على ذلك فإنَّ الإمام الصدر، وهو رمز المعارضة
الإسلامية في العراق ينحدر من أسرة عراقية معروفة بنشاطها السياسي في تاريخ
العراق الحديث. لجأ النظام البعثي الذي كان يجاهد عبثاً للحصول على شرعية
ما إلى خطة جذرية لتصفية الحركة الإسلامية تصفية كاملة وبأي ثمن، وتوج هذه
الخطة باستصدار قراره المشؤوم في 31 أذار 1980 من مجلس قيادة الثورة بأعدام
كل عضو ينتمي إلى حزب الدعوة أو التنظيمات المرتبطة به أو حتى الذي يروج
لأفكاره أو الذين يعملون لتحقيق أهدافه. وتضمن القرار أثراً رجعيا لمفعوله
أيّ يشمل القرار حتى الذين كانوا منتظمين فيه سابقاً.
أحس الشهيد الصدر أنَّه كان مستهدفاً بالذات بقرار إعدام كهذا، ولن
يكون هنالك أمل في الحفاظ على حياته مالم يكن هنالك مجال للانسحاب أو إعادة
التنظيم في الحملة ضد النظام.
وبينما هو تحت الإقامة الجبرية سرب السيد الصدر ثلاثة أشرطة مسجلة
إلى أعوأنَّه داعياً فيها الشعب العراقي إلى مقاومة النظام بأي وسيلة
ممكنة.[108]
ووضع السيد الصدر نفسه قائدا للشعب العراقي وتحدث نيابة عنه وباسمه. وطالب
الحكومة بمنح الشعب حقوقه السياسية والدينية، وشدد على منح هذه الحقوق
بصورة متساوية إلى كل طوائف وقوميات الشعب بعربه وأكراده وسنته وشيعته. كما
خاطب أعضاء حزب البعث أنفسهم عندما بيّن لهم كيف خالفت قيادتهم الحالية حتى
مبادئ حزبهم نفسها.
وتحدى النظام في شرعيته وأهليته للحكم ودعاه بالسماح للمواطنين
للتعبير عن أنفسهم ولو لمدة أسبوع واحد كي يعرفوا مشاعر الشعب نحوهم.
وفي احد هذه التسجيلات الصوتية أعلن السيد الصدر بيأنَّه الختامي
الى الشعب بضرورة إسقاط النظام وإقامة حكومة إسلامية محله واحد هذه الفقرات
كانت:
"يجب على كل مسلم في العراق وعلى كل عراقي خارج العراق إنَّ يعمل كل ما
بوسعه، حتى لو كلفه ذلك حياته من أجل مواصلة الجهاد و النضال
للتخلص من هذا الكابوس الجاثم على صدر العراق الحبيب ويخلصوا أنفسهم من هذه
العصابة اللاإنسانية وإقامة حكم عادل ونزيه يقوم على أساس الإسلام".[109]
تأكد السيد الصدر عن عزم النظام بتصفيته وحاول تشكيل لجنة من معاونيه دعيت
بالقيادة النائبة لتقود الصراع ضد النظام من بعده.[110]
وكان من المفروض إنَّ يكون أعضاء هذه اللجنة خمسة أشخاص. وبالرغم من إنَّ
السيد الصدر لم يعلن عن أسمائهم إلا إنَّ هنالك أجماعاً بأنهم من أخلص
المقربين إليه وهم: السيد محمد باقر الحكيم، السيد كاظم الحائري، الشيخ
محمد مهدي إلآصفي، السيد محمود الهاشمي، الشيخ محمد باقر الناصري.[111]
وقد ارتأى السيد الشهيد الصدر عرض أعضاء اللجنة على الإمام الخميني
للموافقة عليهم كي يكسبهم شرعية قيادتهم بعد موته.[112]
وعلى أيّ حال فإن تشكيل هذه القيادة لم ير النور بسبب إستباق النظام لها
وتصفية السيد الصدر.
اعتقلت أجهزة الأمن السيد الصدر وأخته يوم 5 نيسان 1980 واحتجزتهما في
المديرية العامة للأمن في بغداد وقد سلم جثمأنَّه بعد ثلاثة أيام لابن عمه
السيد محمد صادق الصدر ودفن سرا في النجف ولم يبلغ النظام عن مصير أخته
العلوية بنت الهدى ولو إنَّ هناك اعتقاداً عاماً بان النظام قد أعدمها
كذلك.[113]
بعد أسبوعين من ذلك التأريخ أصدر الإمام الخميني بياناً حول إعدام السيد
الصدر وأخته ودعا الشعب العراقي وشعبه إلى الإطاحة بنظام البعث.[114]
(هذه بعض الملاحظات الختامية عن السيد الصدر ودوره السياسي)
لقد رسم الإمام الصدر إستراتيجية ثورية لتطبيق خطته بأحداث تغييرات
جوهرية في محيطه ومجتمعه والنظام السياسي، والمؤسسة الدينية والعالم بأسره.
باختصار لم يعجبه أيّ شئ حوله. وبعكس (روسو) اليوطوبي الذي لم يحمل أيّ
بصيص أمل بتغيير ما حوله وولى وهو في حالة من إلياس والقنوط، كان الشهيد
الصدر متفائلاً بأمكانية نظرية التغيير التي يؤمن بها بإصلاح العالم من
حوله. ومع كون السيد الصدر كان مثالياً من جانب ولكنه من جانب آخر كان
متفائلاً وواقعياً أيضاً، حيث كان يعتقد إنَّ المحصلة النهائية للتاريخ
ستكون في جانبه. فكان حازماً في مواجهة السلطة وكان إحساسه العميق بان
التغيير حاصل لا محالة له في المدى التأريخي القصير، وهذا ما شجعه لخوض
غمار المسار الثوري الذي أختطه لنفسه. فلم يشهد التأريخ المعاصر للحوزة في
النجف أيّ فقيه مناهض للسلطة بهذه الدرجة إرادة التغيير مثل الإمام الصدر.
كل المصلحين الدينيين الذين سبقوه أرادوا تحسين أوضاع المجتمع
بطريقة إصلاحية تمكن الحوزة من التأثير كعامل مساعد ودافع ليس إلا. كل
المصلحين العلمانيين السابقين كانوا يتحاشون الحوزة التي كانوا يعدونها
عاملاً من عوامل الركود والتخلف، ولكن السيد الصدر برز كنجم ساطع في
التأريخ المعاصر من خلال محاولته تغيير المجتمع على أسس دينية، ولكن في
الوقت نفسه أراد تجديد الحوزة التي وجدها بتركيبتها التنظيمية الحالية
قاصرة على كونها أداة فعالة على لتغيير والتطوير.
لهذه الأسباب وغيرها كان الشهيد الصدر هدفا للانتقادات القاسية من
خصومه العلمانيين والدينيين على حد سواء. على أيّ حال كان نشاطه السياسي في
بداية سني شبابه واستشهاده المبكر محض مصادفة تاريخية بنظري، ولم تكن نتيجة
خطة طويلة الأمد أعُدّت من جانبه، وأجد نفسي في هذه المسألة مختلفاً مع
العديد من الإسلاميين الثوريين الذين يعتقدون خلاف ذلك. ووجهة نظري هذه
تعززها الاعتبارات التالية:
أولاً:
كان السيد محمد باقر الصدر كطالب شاب ودارس للفقه منقطعاً لدراسته الدينية
ولم يكن ضالعاً في الأمور السياسية خلال السنوات المضطربة التي أعقبت
انقلاب عام 1958 في العراق وكان يُعدّ طالباً نادراً ونابغة في الحوزة.
وقد انغمس في العمل السياسي نتيجة تشجيع زميله السيد طالب الرفاعي
الذي قدمه إلى مؤسسي حزب الدعوة الذين رأوا فيه ملامح الفقيه الأخاذ الذي
يستطيع إنَّ يصبغ صفة الشرعية على نشاطهم السياسي داخل الحوزة.[115]
وحالما انخرط في نشاطات الحزب حتى تدرج إلى أعلى منصب فيه وأصبح
فقيه الحزب وهو المنصب الذي يمكن صاحبه من الأشراف على نشاطات وفعاليات
الحزب.
وقد استقبلت الأوساط الشعبية وحتى المؤسسة الدينية طاقات وكفاءات
السيد الصدر الفكرية بالاحترام والتقدير وخصوصا بعد طبع كتابه "فلسفتنا"
الذي جعله منظراً للحزب والحركة الإسلامية السياسية بوجه عام.
بعدها أصبح السيد الصدر قائداً دينياً للحركة الإسلامية ليس في
النجف والعراق فحسب بل في العالم الإسلامي أجمع. ولم تغير إستقالته
المفاجئة من حزب الدعوة بعد سنين قليلة من وضعه القيادي في الحزب وتأثيره
عليه. وفي الحقيقة كان انسحابه من الحزب مجرد عملية سياسية مرسومة تهدف إلى
فتح الطريق أمامه لتقلد منصب أعلى ورمزي للمسلمين الشيعة إلا وهي المرجعية
الدينية العليا، حيث كان الفقهاء والعلماء الواعون وأبناء الحركة الإسلامية
يأملون في إنَّ يرتقي السيد الصدر سلم المرجعية ويصبح مرجعاً أعلى للشيعة
في كل مكان. كانت هذه القضية تبدو مسألة وقت ليس إلا، حيث كان السيد الصدر
يعتبر عالما فقيها واسع الدراية في الحوزة وقد هتف الإمام الخميني يوما
معبرا عن إعجابه به "أنَّه جوهرة المدارس الإسلامية" بعضهم كان يتمنى بصعود
السيد الصدر إلى هذا المنصب إنَّ يوضع حداً نهائياً لسياسة الاستسلام التي
كانت تتبعها المرجعية تجاه الحكومة.
ثانيا:
لاحظ البعض وعلى فتوى السيد الصدر بمنع طلبة المدارس الدينية من الانخراط
في أيّ حزب إسلامي سياسي وكذلك استقالته من حزب الدعوة مؤشرا على أنَّه قد
غير من أفكاره حول شرعية تشكيل حزب سياسي وادعوا إنَّ السيد الصدر في سني
حياته الأخيرة كان في مسار الإمام الخميني الذي تزعم النضال السياسي وعبأ
الجماهير بواسطة علماء المساجد بعكس النشاط الذي كانت تتبعه الأحزاب
التقليدية. حتى تلميذه السيد الحائري الذي كان لحد عام 1985 فقيها لحزب
الدعوة صرح بأن السيد الصدر وفي أواخر حياته بدل من فكرته وحبذ فكرة
المرجعية الموضوعية.[116]
وعلى أيّ حال فانا أعتقد أنَّ هنالك دوراً متميزاً لكل من الحزب والفقيه، و
تمسك السيد الصدر بفكرته التي تنص على أنَّه بالإمكان تحقيق الحكومة
الإسلامية بواسطة نضال نخبة منظمة ومخلصة ومجاهدة من الأمة تستطيع قيادة
صراع سياسي ناجح ضد الطغاة. واقترح إنَّ يكون دور الفقهاء هو توجيه الحزب
السياسي وإعطاؤه الغطاء الشرعي اللازم لنشاطاته. فكان برنامجه السياسي
يتمحور حول فكرة مؤداها إنَّ النضال السياسي الناجح بالإمكان تحقيقه فقط من
خلال عملية تربوية بطيئة وتدريب وتربية طويلة للشعب. وبما أنَّه لا يعتبر
كل المسلمين متحمسين للأهداف الإسلامية السياسية، وإنما يعيشون حالة لا
أُبالية في بيئة إسلامية متوارثة وعليه لغرض تهيئة أجواء سياسية قوية
ومتعافية يجب إنَّ يركز الاهتمام على النخبة التي نذرت نفسها للأهداف
السياسية للإسلام والتي يقع على عاتقها خلق الأوضاع الثورية التي تقود إلى
النضال السياسي.
استنتاجي باختصار هو إنَّ السيد الصدر اعتقد أنَّ الحزب يجب إنَّ
يقوم مقام الأذرع السياسية للمرجعية الموضوعية في تعبئة الجماهير وفق منهاج
سياسي معتمد من قبل المرجع الأعلى.
ثالثا:
بالرغم من تحمس السيد الصدر الشديد لمبدأ قيادة المرجعية العليا فإنَّه لم
يقدم على تحدي المرجع الأعلى في وقته السيد الحكيم ولا خليفته السيد الخوئي
وما أصدره من دراسات وبحوث حول المسائل الفقهية في منتصف السبعينات لا تعد
بحد ذاتها تحدياً أو استهجاناً لمواقف الخوئي السياسية. وهو في الواقع برر
إعلأنَّه غير المباشر برغبته في المرجعية ليدرء عن نفسه بطش وتعسف السلطة،
واعتقد إنَّ الحكومة سوف تبقيه حياً وحسب العادة المتبعة تاريخياً من قبل
الأنظمة القائمة في إيران والعراق بعدم المساس بحياة أيّ مرجع ديني. وجديرٌ
بالذكر هو أبعاد النظام الإيراني للإمام الخميني في مطلع الستينات إلى
العراق والذي يبدو إنَّ السيد الصدر قد اخطأ في حساباته حول مدى تعقل
النظام العراقي وربط جأشه والتزامه بهذا الموقف الذي قد يهدد وجوده.
بالعكس. كان النظام يعتبر أيّ خلاف سياسي تهديداً مباشراً لوجوده، وعليه
فقد تعامل البعثيون بعنف ووحشية مع خصومهم السياسيين متجاهلين الضغوط
الخارجية والرأي العام العالمي.
وعندما أصدر السيد الصدر كتابه "الفتاوي الواضحة" اعتمده كثير من
أعضاء حزب الدعوة ومحبي السيد الصدر، وعليه فقد عدًّوا مؤلفه مرجعاً دينياً
أعلى لهم وقائداً سياسياً.
وأخيراً لم يحاول السيد الصدر وبالذات في السنتين الأخيرتين من
حياته إنَّ يزج نفسه في مواجهه مفتوحة (أو مكشوفة) مع حكومة البعث خصوصا
وأنَّه أحس إنَّ الفرصة لم تكن سانحة لخوض مثل هذه المواجهة ونجاحها.
ولكنهُ زُج في المعارضة الشعبية ضد النظام البعثي بواسطة القيادة
الإيرانية والعراقيين الذين تأثروا بالثورة الإيرانية وبالأخص أعضاء حزب
الدعوة ومريدي السيد الصدر نفسه.
وطبقاً لما أوردهُ الشيخ النعماني كان السيد الصدر غير مرتاح لمواكب
البيعة والتأييد التي وفدت على بيته والتي نظمها حزب الدعوة لأنَّه أحسَّ
إنَّ الحركة الإسلامية قد كشفت عن قوتها وعناصرها لأمن النظام وبطشه كما
وأحسَّ إنَّ الوقت لم يكن سانحاً لثورة ناجحة وكان هاجسه في ذلك الوقت ردود
فعل النظام التعسفية.
ولكن وعلى العكس من ذلك مضى القادة الإيرانيون قُدُماً في حملتهم ضد
النظام من خلال إذاعتهم الناطقة بالعربية والموجهة إلى العراق بالأخص،
وحرضوا المنظمات السياسية الإسلامية في العراق على تنظيم المظاهرات
والاحتجاجات بأسلوب مشابه للذي اتبع خلال الثورة الإيرانية وخرجت الجموع
تردد شعارات الولاء للسيد الصدر الذي يبدو أنَّه قد وضع في موقف حرج ودُفع
رغماً عن خطته السياسية إلى تأييد الجماهير التي كانت تنادي باسمه. وأحس
كقائد تاريخي أنَّه اكره على الوقوف بصف الجماهير التي كانت بحاجة إلى
قيادته.
وأعتقد أنا بأنَّ أحداً لم يستشره لا من القيادة الإسلامية
الإيرانية ولا من قيادة الحركة الإسلامية في العراق. والواضح أنَّه كان
يستمع إلى نداءات أية الله الخميني والقادة الإيرانيين الآخرين تدعوه
للثورة ضد الحكومة من خلال الراديو فقط.
وعلى أيّ حال بعض هذه التظاهرات التي انطلقت لأول مرة تأييداً له، وللثورة
الإسلامية الإيرانية كانت عفوية وغير مرسومة حتى من قبل المنظمات الإسلامية
وهذه بالتأكيد انطلقت بواسطة أشخاص متحمسين تأثروا بالنصر الباهر الذي
أوشكت الثورة الإيرانية إنَّ تحققه.[117]
ولكن بعد انتصار الثورة رحب حزب الدعوة بأعمال مثل هذه، وحاول الضغط على
السيدين الصدر والخوئي لتثوير حركة مثل تلك التي قادها آية الله الخميني
للإطاحة بالنظام.[118]
وقد اقتنعت قيادة الحزب وتوصلت إلى استنتاج مفاده إنَّ الظروف التأريخية قد
أصبحت مؤاتية للبدء بالنضال السياسي ضد نظام البعث خصوصا وإنها لاحظت من
خلال التجربة الإيرانية إنَّ الأنظمة المستبدة غير قادرة على سحق الآلاف من
المتظاهرين الذين يتزايد عددهم باضطراد كلما زاد البطش والتنكيل ضدهم.
هذه المغامرة كانت معتمدة بالدرجة الأساس على تقدير مبالغ فيه عن الذهنية
الثورية للجماهير العراقية التي كانت بالتأكيد تكن الحب والولاء للثورة
الإيرانية وكان افتراضهم بان نظام البعث سيتصرف مثل تصرف نظام الشاه حيال
الجماهير المتظاهرة افتراضاً خطأً فجيعاً.
هذه الأخطاء في الحسابات من قبل القيادة الإيرانية والثوريين العراقيين
جعلت السيد الصدر وبقية النشطاء السياسيين في العراق يدفعون الثمن غالياً.
الهوامش:
[1]
للاطلاع على اوضاع القومية العربية بعد وفاة
جمال عبد الناصر في مصر يراجع كتاب فؤاد عجمي المعنون (حالة
العرب ) "مطبعة جامعة كامبردج
[2]
يشكل
الاكراد مايقارب ال 20% من مجمل سكان العراق. والتركمان 2% وبقية
الاقليات غيرالعربية0،5%.
[3]
يراجع حسن العلوي في كتابة "الشيعة والدولة
القومية في العراق" للاطلاع على تركيبة القيادة البعثية في
العراق (باريس
CEDI)،
ص225-227.
[4]
سمير الخليل : جمهورية الخوف، السياسة في
العراق الحديث (بيركلي، كاليفورنية،مكتبة جامعة بيركلي 1989 )،
37-38.
[5]
مثال هذة التنظيمات : فدائي اسلام التي اسسها
نواب صفوي في اواخر الاربعينيات وبعد ذلك ترأسها صادق الخلخالي
الذي ترأس كذلك المحكمة الثوريه في عامي 79-80، منظمة مجاهدي خلق
وهي منظمة إسلامية اشتراكية التي كان يدعمها اية الله الطالقاني.
ومنظمة نهضت آزادي التي أسسها مهدي بزركان، اول رئيس وزراء بعد
انتصار الثورة الاسلامية بتكليف من الإمام الخميني.
[6]
للاطلاع على الماف الكامل لحكم الزعيم قاسم
يراجع اوريل دان (العراق تحت حكم قاسم ) نيويورك، بريكير
1969.
[7]
للاطلاع على فظائع الحزب الشيوعي العراقي في
تلك الحقبة يراجع ظاهر في مقالته (القمع في
CARDRI)
في كتاب عراق صدام، ثورة ام رد فعل؟ ص 148-150.
[8]
حسن
شبر: دور حزب الدعوة الاسلامية في التغير وحالات الاسترخاء
السابقة، الجهاد عدد 363،في تشرين الاول 1988.
[9]
حسب ما اورده احدزملاء السيد الصدر ومن العلماء
المعروفين بنشاطه في الخمسينات والستينات، السيد طالب الرفاعي أنَّ
جماعة العلماء كانت تضم عشرا من العلماء البارزين وهم :الشيخ ال
ياسين، الشيخ عباس الرميثي، السيد اسماعيل الصدر، الشيخ محمد طاهر
شيخ راضي، الشيخ محمد جواد شيخ راضي، السيد محمد تقي بحر العلوم،
السيد موسى بحر العلوم، الشيخ محمد رضا المظفر، الشيخ حسين
الهمداني، السيد محمد باقر الشخص.
[10]
مقابله
مع محمد باقر الحكيم (الذي كان السيد الصدر يدعوه باْحب واعز مساعد
له )، الجهاد،عدد 5.
[11]
محمد حسين فضل الله : التقديم لـ رسالتنا
بواسطة السيد الصدر (بيروت. الدار الاسلامية 1981)،
ص16.
[12]
مقابلة مع
الشيخ عبد الهادي الفضلي،
أحد
الشخصياب القيادية في جماعة العلماء وحزب الدعوة
في 1 كانون الثاني
1990.
[13]
مقابلة مع السيد طالب الرفاعي.
[14]
وعلى اي حال وحسب ما تطرق اليه السيد الرفاعي
فقد تحولت الأضواء وبمرور الزمن الى صحيفه ناطقه باسم حزب الدعوة
تطبع من خلالها تعليمات الحزب الرسميه وتعبر عن ارائه من خلال ما
يكتب في مقالاتها الافتتاحيه والتقارير.
[15]
محمد حسين فضل الله.
تقديم: مصدر سابق، ص 17
[16]
كان السيد الصدر، وحسب ما أبلغني به طالب
الرفاعي، لايملك ما يساعده على شراء الكتب الفلسفية الغربية التي
كانت ضرورية
للدراسة
وعندها لجأ
السيد الرفاعي الى أحد اصدقائه من القوميين العرب والذي كان يملك
مكتبه لبيع واعارة المصادر التي كان يريدها والتي تبحث في
المادية.
[17]
حسب ما اورده السيد طالب الرفاعي كان مؤسسو حزب
الدعوة ثلاثة اشخاص هم السيد الرفاعي نفسه والسيد
مهدي الحكيم ومحمد
صادق القاموسي.وقد
عرف السيد الرفاعي السيد الصدر على قيادة الحزب ودعاه الى الانتماء
اليه ولم تمض فترة طويلة الا وتصدر السيد الصدر رئاسة الحزب
نفسه.ولكن
الشيخ
عبد الهادي الفضلي
يناقض ذلك على اساس أنَّ الحزب انشأه الاخوة هادي ومهدي
السبيتي
اللذين كانا اعضاء في حزب التحرير واقترحوا على السيد مرتضى
العسكري فكرة انشاء حزب سياسي.وقد حمل الاخير الإقتراح
الى السيد الصدر لإعداد خطة عن تركيبة الحزب وصياغة منهاجه،
وعلى اي حال
فالسيد
الرفاعي ومهدي الحكيم من اوائل الذين فوتحوا بالانضمام للحزب حسب رأي
الشيخ الفضلي.
[18]
يوجد رأيان مختلفان حول تشكيل حزب الدعوة
الاسلامية، فحسب رأي صالح الاديب احد الأعضاء المؤسسين في الحزب
بان اول خلية للحزب تسكلت في عام 1957. يراجع مقالته (رجال الحركة
الاسلامية في العراق يتحركون :سنوات المواجهة مع المد الأحمر )،
الجهاد، عدد 326، 1 شباط 1988. وكذلك السيد حسن شبر وفي كتابة
الجديد(العمل الحزبي في العراق)، بيروت، دار التراث العربي
1989، ص 255 -256. بينما يؤكد السيد طالب الرفاعي على أنَّ تاسيس
الحزب الفعلي بعد اشهر قليلة من انقلاب 14 تموزعام 1958.
[19]
الأسدي : حزب الدعوة الاسلامية، طريق ا
لحق،اب 1980، ص64
.
[20]
طبقا ًلمصادر حزب الدعوة كتب السيد الصدر أربع
مقالات في جريدة الحزب الرسمية (صوت الدعوة) يوضح فيها
الأسم وتركيبة الحزب والهدف وطبيعة الظرف الراهن في النضال السياسي
وكانت مستهدفة بناء الخلايا التنظيمية للحزب. وقد طبعت هذه
المقالات في اصدارات الحزب رقم 13 من فكر الدعوة الاسلامية،
الشهيد الرابع، الإمام الصدر .
[21]
الاسدي :حزب الدعوة الاسلامية، مصدر
سابق، ص 48.
[22]
طبقاً لما اورده السيد الرفاعي، اتخذ السيد
الصدر قراره بالاستقالة من الحزب في سامراء بعد اخذه الاستخارة.
[23]
حسين الصافي كان مسؤول فرع حزب البعث في النجف
وقد تعاون مع القوى الاسلامية في صد الوجة الشيوعية في النجف وكما
أستعملت جماعة العلماء الشيخ محمد رضا الشيخ راضي كأداة وصل بينهما
وبين القوى القومية والبعثية التي كان يمثلها حسين الصافي. عليه
كان على علم تام بنشاطات السيد الصدر. وعند صعود البعثين الى سدة
الحكم عام 1963 عين حزب البعث حسين الصافي محافظاً للديوانية
القريبة من النجف. بعدها استقال من منصبه واعتزل السياسة وهاجر الى
المغرب عام 1970 ليعمل هناك كرجل اعمال وقد استدرجه صدام 1985 الى
العراق ليعدمه بعد وصوله.
[24]
للاطلاع على التفاصيل كاملة يراجع المقابلة
التي اجريت مع محمد باقر الحكيم في (الجهاد) عدد 14 (جمادي
الثاني 1401 هجرية) وقد نوه الحكيم كذلك عن رسالة استلمها من السيد
الصدر عندما كان الاخير في لبنان يشرح فيها ملابسات الموضوع.
[26]
محمد حسين فضل الله، مقدمة كتاب "رسالتنا
" (بيروت، الدار الاسلامية 1981)، ص 17.
[27]
مقولة
مشهورة للسيد الصدر بهذا الشأن هي : مجتمعنا لا يتحمل مجتمعنا.
[28]
مقابلة مع سماحة الدكتور عبد الهادي الفضلي، في
1 كانون الثاني 1990.
[29]
محمد حسين فضل الله : مقدمة ل "رسالتنا"
مصدر سابق، ص 17.
[30]
فاضل النوري، الشهيد الصدر فضائله وشمائله
(قم.مكتب محمود الهاشمي1984)،ص 93.
[31]
كتاب السيد الصدر
في إصول
الفقه،
"المعالم الجديدة في اصول الفقه"،
يراجع فاضل النوري، مصدر سابق، ص 64 والقبانجي في كتابه الجهاد
السياسي، ص79
.
[32]
قتل عبد السلام عارف في حادث طائرة هليوكبتر
عام 1966 وخلفه اخوه عبد الرحمن.
[33]
هذا لا يعني أنَّ العلاقة بين عبد السلام عارف
ونظامة والحركة الاسلامية الشيعية كانت خالية من المواجهة وعدم
الثقة وفي الحقيقة كان عارف طائفياً في آرائة الدينية واشتراكياً
في سياسته الاقتصادية الداخلية وقومياً عربياً في علاقاتة
الخارجية، وهذه المواقف مرفوضة من جانب علماء الدين الشيعة بوصفها
غير اسلامية. للاطلاع على التفاصيل الكاملة لهذة العلاقات بحرارتها
وبرودتها يراجع مرتضى العسكري في الذكرى السنوية الاولى لإستشهاد
السيد مهدي الحكيم في لواء الصدر، عدد 7 جمادي الثاني،
1409 هجري.
[34]
كان يترأس الجماعة السيد هادي الحكيم ومرتضى
العسكري، وفي نهاية الستينات كان السيد هادي الحكيم هو أكثر
المتحدثين باسم الجماعة. مقابلة مع العسكري لواء الصدر، 7
جمادي الثاني 1409 هـ. ص6.
[35]
اصبح السيد الصدر مجتهدا في منتصف العشرينات من
عمرة وهو امر نادر حصوله في الحوزات العلمية ومعظم العلماء
حصلوا على هذا اللقب في اربعيناتهم أوخمسيناتهم. وقد حصل عليها من
خلال استاذة السيد ابو القاسم الخوئي. ذكاؤه الخارق جلب له الشهرة
ولكنه كذ لك اثار حفيظة الحساد من أقرانه. وهذا اللقب اكسب السيد
الصدر وآراءه احتراماً وتقبلاً لدى مجتهدي الحوزة ومكنه من فرض
آرائه حول المسائل الدينية والاجتماعية في الوقت نفسه كانت
المقاومة ضده تزداد حول نشاطه السياسي واصلاحاته الدينية.
[36]
بدأ السيد الصدر في اعطاء دروسه في البحث
الخارج عام 1968 لتنتهي بعد ثلاث سنوات طريق الحق. العدد
الرابع. آب 1979. ص 10.
[37]
ابو علي : لمحة خاطفة عن الشهيد الرابع الإمام
محمد باقر الصدر ، طريق الحق ، العدد السابع ، ايار 1980 ،
ص 18.
[38]
الشهادة :
2جمادي الثاني 1409 هجرية، ص 12.
[39]
للاطلاع على سياسات نظام البعث يراجع كتاب مجيد
خدوري "العراق الاشتراكي: دراسة في السياسات العراقية منذ عام
1968". العاصمة واشنطن ، مؤسسة الشرق الاوسط، 1978. وكذلك كتاب
سمير الخليل (كنعان مكية) في كتاب "جمهورية الخوف ".
[40]
عقد الاجتماع في احد ضواحي بغداد وهي الكرادة
الشرقية وحضره ما يقارب الستين من علماء الدين من بغداد والكاظمية.
يراجع جريدة "الشهادة" ، 2 جمادي الثاني 1409 هـ.
[41]
الرسالة التي كتبها السيد الصدر الى أحد
اصدقائه والتي طبعت بمقالة القبانجي في الجهاد السياسي ص 39 -41
تظهر انه كان قائداً سياسياً من الطراز الاول فقد كان يخطط مع احد
السادة الذين لم يذكر اسمهم لنشاطات عديدة ضد نظام البعث في العراق
منها طلبه من الطلاب اللبنانيين الذين كانوا يدرسون في الحوزة
بالنجف بإقامة مؤتمر صحفي يهاجمون فيه ومن خلال اجهزة الصحافة في
لبنان نظام البعث العراقي وحملته التعسفية ضد السيد الحكيم يوزعون
خلالها المنشورات والبيانات ولكن الرسالة تظهر ايضاً مدى احباط
السيد الصدر وخيبة امله لتلكؤ الطلبة وعدم حضورهم المؤتمر.
[42]
تم اللقاء بين السيد محسن الحكيم وقادة حزب
الدعوة في 9 حزيران 1969. يراجع الجهاد وهي صحيفة حزب
الدعوة ، في ربيع الاول 1404 هجرية ، ص 43.
[43]
لواء الصدر ،
29 شعبان 1409 هـ.
[44]
مرتضى العسكري ، جذور وخلفيات التحرك الاسلامي
في مواجهة البعث العفلقي ، لواء الصدر 22 محرم 1409 ه ،
ص10.
[46]
حاولت الحكومة البعثية التأثير على عملية
انتخاب المرجع الاعلى للشيعة من خلال حملتها لفرض الشيخ علي كاشف
الغطاء الذي كان يؤيد وعلى الملأ النظام الحاكم ، وعلى اي حال وضع
كل من السيد الصدر والسيد يوسف الحكيم (وهو نجل السيد محسن الحكيم
الاكبر) كل ثقلهم الى جانب السيد الخوئي .
وعن
عملية انتخاب السيد الخوئي يراجع كتاب فؤاد أعجمي الإمام الغائب
موسى الصدر والشيعة في لبنان،
(اثيكا،
نيويورك ، مطبعة جامعة كورنيل 1968)
، ص194.
[47]
الوحدة ،
الاعداد 5، 6، 7 (وهي مجلة باللغة بالعربية تصدر عن وزارة الارشاد
في الجمهورية الاسلامية الايرانية).
[48]
القبانجي ، الجهاد السياسي ، ص74.
[49]
حزب الدعوة ، لمحات من مسيرة حزب الدعوة
الاسلامية ، ص25.
[50]
صالح الاديب ، مواكب الطلبة ، جريدة الجهاد
، 29 شباط 1988 ، ص12.
[51]
كان صاحب دخيل محررأً لصحيفة صوت الدعوة
وهي صحيفة حزب الدعوة السرية. اعتقل في 28 ايلول 1971 واعدم بعدها.
يراجع الجهاد ، 3 كانون الثاني 1983.
[52]
الخمسة الذين حكم عليهم بالاعدام هم الشيخ عارف
البصري والسيد عز الدين القبانجي والسيد عماد التبريزي وحيسن
جلوخان ونوري طعمة. للاطلاع على حياتهم واعتقالهم واعدامهم. يراجع
: حزب الدعوة الاسلامية ، شهداء بغداد. طهران :حزب الدعوة
الاسلامية 1403 هجرية.
[53]
يراجع صحيفة الجهاد ، ربيع الاول 1404
هجرية ، ص44. للاطلاع على ردة فعل الإمام الخميني على اعدام
الشهداء الخمسة.
[54]
الجهاد ، 20
تموز 1987 .
[55]
هذه الفتوى اصبحت واحده من اكثر المسائل نقاشاً
في أدبيات الحركه الشيعية الاسلامية في العراق. وقد علل مناهضوا
فكرة أنشاء حزب سياسي (التي يعتبرونها ظاهرة غربية)
أنَّ السيد الصدر قد بدل من فكرته وأصبح لا يؤمن بفكرة أنشاء مؤسسة
حزبية كوسيلة دينية مقبولة للجهاد السياسي. وعلى النقيض أظهر حزب
الدعوة ومناصريه أدله تثبت أنَّ فتوى السيد الصدر كانت مجرد عملية
تكتيكية لحماية الحوزة من عمليات تنكيل جديدة تقوم بها الحكومة
(يراجع مجلة الجهاد رقم3 في 1404 هجرية ، ص 44-47). وتحبذ
الجماعة الأولى التنظيم الشعبي السياسي في مقابل التنظيم الحزبي
بتركيبة الخلايا الهرمية، ويدعون أنها طريقة اسلامية خالصة في
التنظيم، وفوق كل هذا فإن هذا التنظيم الشعبي ينبع من إطروحة العمل
السياسي للإمام الخميني (يراجع علي الكوراني طريقة حزب الله
، وصدر الدين القبانجي، بحوث في المرجعية، 1984). بينما
تدعو الجماعة الثانية أنَّ فكرة التنظيم الحزبي هي فكرة اسلامية
ايضاً بدليل انها وسيلة من وسائل الجهاد الفعالة، وشرعيتها تكمن في
مباركة تأسيسها وعملها مجتهدون كبار كالسادة محسن الحكيم والصدر.
كما ونوهوا على عدم وجود فوارق كبيرة في التنظيم الهيكلي بين حزب
الله وحزب الدعوة اللهم الا بالإسم والشكل فقط. للمزيد يراجع مقالة
السيد محمد حسين فضل الله: من يقود عملية التغير في الامة ؟ حزب
الامة
أو
أمة
الحزب، المنطلق في الاعداد 27 ، 28، 29 "10 ، 11، 12 ،
1985 )؛ وكذالك مقابلة مع السيد فضل الله في الجهاد 14
كانون الاول ، 1984 ، ص 9.
[56]
صدر الدين القبانجي هو الوحيد الذي نوه عن
إعتقال السيد الصدر في عام 1971 بواسطة الحكومة ولكنه لم يودع في
السجن لسوء حالته الصحية آنذاك وبقي مقيداً الى سريره في المستشفى،
الجهاد السياسي.
[57]
من المراجع الاخرى التي كانت متواجدة في النجف
آية الله الخميني وهناك آخرون في قم في إيران مثل شريعة-مداري
(المتوفي عام 1985 )،
والسيد
الكلبيكاني
والسيد مرعشي النجفي ، وفي مشهد إيران السيد عبدالله شيرازي
(المتوفى عام 1986 ).
[58]
يتعين على كل شيعي أنَّ يقلد احد المجتهدين
ويتبع آراءه وخصوصاً فيما يتعلق بالامور العبادية. وعندما يتوفى
ذلك المجتهد يتعين على مقلده ان يختار احداً آخر من الاحياء الذين
يعتقد أنه أعلمهم وقد جرت العادة أنَّ المرجع الجديد يدون آراءه
بشكل هوامش على رسالة المرجع السابق كي يتمكن عوام الناس من تشخيص
الفروق بآراء كلا المجتهدين.
[59]
جرت العادة في الطباعات التي تصدرها الحوزة
أنَّ يتولى بعض الطلبة وبالاخص المجتهدين منهم كتابة محاضرات
استاذهم. بعدها يحصل الطلاب على اذن خاص من استاذهم يسمح لهم
بإصدار ما كتبوه تحت رعاية الأُستاذ وباسمه وتسمى (التقريرات).
[60]
دون الجزء الرابع بواسطة احد طلبة السيد الصدر
في الحوزة السيد محمود الهاشمي تحت عنوان تعارض الادلة
الشرعية،
(بيروت،
دار الكتاب اللبناني).
وكان الهاشمي يعدّ من طلبة السيد الصدر البارزين، وحصل على درجة
الاجتهاد في الثلاثينات من عمره وقد عينه السيد الصدر فيما بعد
ممثلاً شخصياً له في إيران بعد انتصار الثورة فيها.
[61]
هذه الاعمال خارجة عن نطاق اختصاصي ولا أجد
نفسي في وضع يمكنني من التعليق أو إجراء التحقيق عليها.
[62]
طلب السيد الصدر من الشيخ محمد جواد مغنية
مساعدته في تنقيح كتاب الفتاوى الواضحة بشكل يجعل كتابتها
سلسة ومفهومة من قبل العامة. وقد أعاد السيد الصدر تنقيح الكتاب
فيما بعد عدة مرات قبل نشره في الأسواق.
[63]
كل السائل العملية مبوبة حسب تصنيف شرائع الإسلام
للمحقق الحلي المتوفي سنة 1277 هجرية.
[64]
السيد الصدر ، الفتاوى الواضحة ،
(بيروت
، دار التعارف للمطبوعات 1981)
، ص 95.
[65]
السيد الصدر، الفتاوي الواضحه ،
ص132-134.
[66]
محمد باقر الصدر، الفتاوي الواضحه
، ص 98.
[67]
يعتبر السيد كاظم الحائري احد العلماء القلائل
الذين حصلوا على درجة اجتهاد من السيد الصدر. وقد كتب السيد الصدر
رسالة له يبدي فيها امتنانه واعجابه على دوره الفعال في تحقيق
واكمال نظرية الاستقراء المنطقي. لمطالعة الرسالة يراجع حسن النوري
في مقالة "مع الشهيد الصدر محققاً " ، الحوار السياسي ، عدد
28-29 الصادر في نيسان \مايس 1985 ص 70-71.
[68]
طبقا لما اورده السيد محمد حسين فضل الله
أثنى الفيلسوف المصري المعاصر زكي نجيب محمود كثيرا على كتاب
الاسس المنطقية
للإستقراء
وتمنى أنَّ يترجم الى اللغات الغربيه ليثبت للغرب أنَّ العرب لديهم
فلاسفه عظام.
[69]
يعدُّ السيد الصدر عمله هذا من أعظم الانجازات
الفكريه التي قدمها، وقد أراد أنَّ يترجم عمله هذا الى اللغات
الغربيه وطبقا لما أورده الشيخ فاضل السهلاني (مدير مركز مؤسسة
السيد الخوئي الخيرية في نيويورك) دفع السيد الصدر مبلغا من المال
الى رئيس قسم الفلسفة في جامعة الاسكندريه في مصر لترجمة الكتاب
الى الانكليزية وقد ارسلت اليه ثلاث نسخ من الترجمة مطلع عام 1980
وقبل استشهاده بقليل، ومن المؤسف له أنَّ الترجمة
لم تر النور بطبعها.
[70]
اهدى السيد الصدر كتابه هذا الى عبد الغني
الاردبيلي، والذي كان من أعز واقرب تلاميذه، وقد توفي في ايران.
وقد ذكر السيد الصدر انه أسرع في إكمال الكتاب في ظرف شهرين بناء
على رغبة الاردبيلي في إستعمال الكتاب في الدورات لتدريسية في
حوزته الجديدة
التي أسسها في إيران. يراجع الاهداء في دروس في علم الاصول
(دار
الكتاب المصري او اللبناني ، القاهرة وبيروت 1978)
، ص 5
.
[71]
قسم السيد الصدر تاريخ تطور المرجعية الشيعية
الى اربع مراحل. الاولى مرحلة المرجعية الذاتية التي تبدأ باصحاب
الائمة المعصومين الى تاريخ العلامة الحلي حيث خدم المراجع كمراكز
لبث الاحكام الشرعية على جماهير الشيعة. المرحلة الثانية كانت
مرحلة المرجعية العامة التي تأسست بواسطة الشهيد الاول (المتوفي
سنة 1374 م ) حيث بدأ المرجع بإرسال نواب عنه الى مختلف المناطق
للوعظ الديني وجمع الحقوق الشرعية. المرحلة الثالثة هي مرحلة
المرجعية المركزية التي من أهم مميزاتها هو تمحور القيادة الدينية
في مرجع واحد، وبدأت بمرجعية كاشف الغطاء (المتوفي سنة 1813 )
وأصبح المرجع الاعلى هو القوة المؤثرة على الشيعة في أنحاء العالم
جميعاً. والمرحلة الرابعة
كانت المرجعية العالمية التي بدأت مع بداية الاستعمار الغربي
للعالم الاسلامي حيث اصبحت المرجعية ضالعة وبصورة مباشرة بالهموم
السياسية للمسلمين لحماية الدين والمدافعة عن حقوق المسلمين. وفي
مواقف عديدة كانت المرجعية هي السباقة في قيادة النضال ضد القوى
الاستعمارية. يراجع: الصدر ، المحنة ، صوت الوحدة ، ص56.
[72]
تطرق لهذه النقاط السيد محمد حسين فضل الله في
حديث له عن المرجعية والتنظيم في المؤتمر الرابع للجماعة الاسلامية
في الولايات المتحدة الامريكية وكندا، والذي عقد في مدينة سانت
لويس، ولاية ميزوري، كانون أول،
1982.
[73]
السيد الصدر،
"أطروحة
المرجعية الصالحة"،
في
مباحث
الاصول
للحائري ، ص 94-95.
[74]
المصدر السابق ، ص69.
[76]
للمزيد من التفاصيل عن هذه الانتفاضة يراجع
رعد الموسوي ، انتفاضة صفر الاسلامبة في العراق،
(قم:
ايران 1404 هـ).
[77]
المصدر السابق ، ص 66-68.
[78]
المصدر السابق ، ص71-73.
[79]
المصدر السابق ، ص68-69.
[80]
المصدر السابق ، ص 95-99.
[81]
من هذه الهتافات : "يا صدام شيل أيدك جيش وشعب
ما يريدك"؛
وكذلك شعار: "يا
جاسم كله للبكر
ذكر الحسين
ما يندثر" (اشارة الى محافظ النجف جاسم
الركابي ).
[82]
رعد الموسوي ، انتفاضة صفر ،
مرجع سابق،
ص 101.
[83]
المصدر السابق،
ص102
-103.
[84]
اعضاء المحكمة الثلاث كانوا :
وزير الصحة عزت مصطفى ، وحسن علي ،
وفليح
جاسم، وكلهم أعضاء في القيادة القطرية للحزب الحاكم.
[85]
قرار مجلس قيادة الثورة في 23
آذار
1977.
[86]
رعد الموسوي ، انتفاضة صفر ص 106 -112.
هذا الكتاب يمثل وجهة نظر حزب الدعوة حيث قدم
له
الشيخ مهدي الآصفي الذي كان الناطق الرسمي باسم حزب الدعوة
في الثمانينات.
وفي حديث شخصي مع سماحة الشيخ محمد باقر الناصري ، أمين جماعة
العلماء ، أكد على دور حزب الدعوة الكبير
في
تنظيم
هذه المواكب
الحسينية
عام 1977.
[87]
القبانجي :الجهاد السياسي ، 89.
[88]
في مكالمة هاتفية مع السيد محمد باقر
الحكيم سنة 1985.
[89]
تصريح
للشيخ
النعماني في كتاب السيد الحائري مباحث الاصول ، ص114.
[90]
عبر السيد الصدر في رسالة بعثها الى طلبته
السابقين ومريديه في ايران عن اعجابه العميق بقيادة الإمام الخميني
وطلب منهم دعمه دعماً كاملاً.
وأوضح
أنَّ مرجعية الإمام الخميني قد حققت الاهداف التي نظّر لها عن المرجعية
في محاضراته في سنين سابقة. يرجع
الى كتاب السيد
الحائري، المصدر السابق،
ص145-146.
[91]
بقي هذا التصريح طي الكتمان لأن أحد مريدي
السيد الصدر القاطن في ايران تخوف على حياة السيد الصدر عند
الإعلان عن هذا التصريح. لمراجعة التصريح بأكمله. يراجع مباحث
الاصول السيد الحائري ، ص142 -145.
[92]
المصدر السابق،
ص 144.
[93]
اتخذت حكومة البعث وبسبب معاهدة الجزائر لعام
1975 موقفاً مسانداً للشاه وقد صرح صدام وكان وقتها نائباً لرئيس
مجلس قيادة الثورة في اجتماع حزبي عقد
في مدينة البصرة "أن الشاه باقٍ،
باقٍ،
باقٍ
".
[94]
يراجع مضمون القضية
في
السيد الحائري، مباحث في الإصول،
المصدر
السابق ، ص 147.
[95]
محمد باقر الصدر،
التفسير
الموضوعي للقرآن
،
(الكويت
، دار التوحيد الاسلامي 1980)
، ص219.
[96]
يراجع
مباحث
الاصول
للسيد الحائري للاطلاع على محتوى رسالة الإمام الخميني للسيد الصدر
، ص117-118.وصف فيها الإمام الخميني الإمام الصدر ب"حجة الاسلام
والمسلمين " وهو لقب يستخدم عادةً للعلماء الأقل منزلةً، على الرغم
من كون السيد الصدر وقتذاك مرجعاً معترفاً بأعلميته وله مقلديه
وكان ينادى ب"آية الله العظمى". وعلى اي حال بدأ الإمام الخميني
يلقبه ب"آية الله الصدر" بعد وفاته.
[97]
حديث خاص مع السيد محمد حسين فضل الله في سنة
1982.
[98]
يراجع المصدر السابق ، ص 123 للاطلاع على رد
السيد الصدر للإمام الخميني. في الرسالة أبدى السيد الصدر احترامه
وتقديره العميقين لقيادة الإمام الخميني وناداه في البدابة بـ
(اية الله العظمى الإمام المجاهد) وهذا اللقب لم يستعمل سابقاً في
التخاطب بين المراجع انفسهم. وقد عبر السيد الصدر عن امتنانه
البالغ لعطف الإمام الخميني على النجف واهلها وقد خاطبه بكونه
ناطقا رسميا عن الشعب العراقي كله ودعا الإمام الخميني بوصفه
قائداً للأمة الإسلامية الى تحرير فلسطين. وقد عدّت قيادة
حزب
البعث
هذا
الرد من أكثر المواقف المهددة لسلطتها في العراق حيث تدعي دائما
بأنها هي الوحيدة المؤهلة لتحرير الاراضي العربية المحتلة كلها.
[99]
كانت هتافات المتظاهرين : باسم الخميني والصدر
الاسلام دوما منتصر ، عاش ، عاش ، عاش الصدر والدين دوما منتصر.
[100]
ما اورده الشيخ النعماني في كتاب السيد الحائري
، مباحث الاصول ، ص119
[101]
نقلا عن جريدة "الجهاد" في الثاني من
مايس 1983 بدون ذكر اسم ذلك العضو.
[102]
جريدة "الجهاد" في 2 مايس 1983.
[103]
مقابلة مع احمد كبة.
[104]
يعتبر السيد الصدر مرجعية الإمام الخميني
موضوعية ليس لانها حققت التركيبة الدستورية التي اقترحها هو ولكن
لان الخميني حقق اهدافها المنشودة. الحائري ، مباحث الاصول
، ص146.
[105]
ما ذكره النعماني في كتاب مباحث الاصول
للحائري ، ص 162-163.
[106]
انفصلت منظمة العمل الاسلامي عن حزب الدعوة
الاسلامية. وكانت المنظمة بقيادة
السيد
محمد مهدي الشيرازي الذي كانت جماعته، حسب قول السيد مهدي
الحكيم، من الجماعات الأولى التي انتظمت قي حزب الدعوة في بدية
الخمسينات.
فأسس السيد محمد وأخوه السيد حسن الذي أغتيل في لبنان عام 1980،
منظمة العمل الاسلامي بعد نزاع مع حزب الدعوة حول مسائل تتعلق
بالقيادة والتنظيم الحزبي. يراجع توفيق الشيخ ، للاطلاع على
ارائهم اليساسية في كتابه " حوارات مع العلامة محمد تقي المدرسي،
العراق والحركة الاسلامية،
(لندن الصفا 1988).
[107]
شبلي ملاط،
"التطرف
العسكري الديني في العراق الحديث:
محمد
باقر الصدر، النموذج السني-الشيعي"،
دورية
العالم
الثالث
الفصلية ،
(نيسان
1988)
ص728.
[108]
حسب ما يقوله اعضاء حزب الدعوة كان من المقرر
أنَّ تستنسخ هذه التسجيلات الصوتية وتوزع داخل وخارج العراق ولكن
معاوني السيد الصدر وخوفا على حياته اثروا عدم القيام بذلك الا بعد
استشهاده.
[109]
لمراجعة احاديث السيد الصدر المسجلة الى الشعب
العراقي يراجع السيد الحائري ، مباحث الاصول، ص147-153
وترجمتها بالانكليزية يراجع ابو علي "نظرة خاطفة على حياة
الإمام الشهيد محمد باقر الصدر واحاديثه الثلاث الاخيرة ،
(مكان وزمان الطبع غير معروف)،
ص16-19.
[110]
ما اورده الشيخ النعماني في كتاب السيد الحائري
، مباحث الاصول ، ص159-160.
[111]
كلهم الان اعضاء في المجلس الاعلى للثورة
الاسلامية في العراق الذي تاسس عام 1982 حيث يتراسه الحكيم
والهاشمي ناطقا رسميا والناصري حتى سنتين خلتا رئيس الهيئة
العمومية.
[112]
الحائري ، مباحث الاصول
، ص159.
[113]
طبقا لما ورد عن احد ابناء عم السيد الصدر لا
تزال عائلة الصدر تامل أنَّ النظام قد حافظ على حياة آمنة الصدر
الملقبة ببنت الهدى ولو أنَّ إعلام
وأدبيات
الحركة الاسلامية يلقبها بالشهيدة بنت الهدى.
[114]
كان السبب في تاخر اعلان استشهاد السيد الصدر
بواسطة الإمام الخميني هو لغرض جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات
الموثقة حول الحادث من خلال وزارة الخارجية.
[115]
يراجع المقابلة التي اجريت مع مهدي الحكيم حول
تاريخ الحركة الاسلامية في العراق في جريدة
لواء الصدر، 12 كانون الثاني 1990 ، ص 12.
[116]
السيد الحائري ، مباحث الاصول ، ص162.
[117]
في مقابلة مع احمد كبة وهو احد اعضاء حزب
الدعوة
وكان من
الذين حرضوا على اول مظاهرة بعد صلاة الجمعة التي اداها اية الله
الخوئي في جامع الخضرة
في النجف سنة 1978 واوضح انه لم تكن لديه أوامر من الحزب ببدء
المظاهرة وبالعكس فإن الحزب قد حذر من عمل كهذا ولم يشجع مثل هذه
التظاهرات الا بعد إنتصار الثورة الايرانية.
[118]
نصح السيد الخوئي السيد الصدر عن طريق ممثل
الاخير في الكويت،
السيد محمد باقر المهري،
بعدم توريط نفسه في النضال السياسي لأنه كان متاكداً من أنَّ
النظام سيقتله في وقت كانت فيه الحوزة بأشد الحاجة لخدماته.
|